رياضيو الثورة التحريرية.. مناضلون اختاروا الوطن على مجد زائل

رياضيو الثورة التحريرية.. مناضلون اختاروا الوطن على مجد زائل

لا يمكننا الخوض في ميلاد اللعبة الأكثر شعبية عامة والأندية العربية على وجه الخصوص في زمن الاستعمار والاحتلال الأجنبي، دون أن نتحدث عن نشأة المنتخب الوطني الجزائري الذي حمل تأسيسه رمزية اجتماعية وسياسية، حيث لعب دورا محوريا في اسماع صوت الشعب الجزائري البطل وعدالة قضيته في كل المحافل الدولية.

والمتعارف عليه أن تأسيس منتخبات كرة القدم في العالم يأتي عقب استقلال الدول، لكن المنتخب الجزائري صنع الاستثناء، فقد عرف النور من أجل تقديم يد العون لجبهة التحرير في الكفاح لنيل الاستقلال الذي عمل على طمس شخصية الجزائري وأصوله ومبادئه وهويته العربية الإسلامية الأمازيغية.

صناعة ثورة

اقترن بروز النواة الأولى للمنتخب الوطني الجزائري مع بداية تشكل المقاومة الشعبية في البلد منذ تأسيس “مجموعة الـ22” و”لجنة التسعة”، إلى إعلان تشكيل “جبهة التحرير الوطني” في 22 جوان 1954، لتشق الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر طريقها في البلد يتقدمه جناح عسكري يحمل الكفاح المسلح طريقًا للنضال والاستقلال، عرف باسم “جيش التحرير الوطني”.

وفي الـ20 من أوت 1956، اجتمع مفجرو الثورة في مؤتمر الصومام، ناقشوا خلالها كيفية استمرار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي وتدعيمها، ليتم الاستقرار على فكرة إنشاء منتخب وطني يُمثل الجزائريين في المحافل الدولية وينقل مطالب الشعب المتمثلة في الانعتاق من الاستعمار الفرنسي، وتم تكليف اللاعب المحترف في البطولة الفرنسية محمد بومزراق بجمع اللاعبين وترحيلهم إلى تونس، من أجل تشكيل منتخب جبهة التحرير.

وقبل يومين من مباراة ودية تحضيرية لمونديال 1958، جمعت بين المنتخبين الفرنسي والسويسري، كان يفترض أن يشارك بها مصطفى زيتوني (نادي موناكو) في الدفاع ورشيد مخلوفي (سانت إيتيان) في المركز رقم 10، اختفى تسعة لاعبين جزائريين فجأة، هربوا من فرنسا عبر الحدود السويسرية والإيطالية باتجاه تونس، قبل أن تلتحق المجموعة المتبقية على فترات بين 1959 و1960.

ورغم التحقيقات المكثفة التي باشرتها الشرطة ونقاط التفتيش المنتشرة على الحدود، استطاعت مجموعات أخرى التنقل إلى تونس وشاركت في ميلاد أول منتخب جزائري لكرة القدم، تحت إشراف المدرب الشاب وقتها، مختار عريبي، فيما تم اعتقال حسان شاربي ومحمد معوش وهما يحاولان الفرار، حيث قضيا عاما كاملا قبل أن يلتحقا برفاقهم بتونس.

ولفت اللاعب الجزائري السابق في نادي رامس الفرنسي محمد معوش في تصريحات صحفية إلى أنّه تنقل بين العديد من المدن الفرنسية بمعية زوجته خديجة للاتصال باللاعبين الجزائريين المحترفين هناك، وإخبارهم بأن جبهة وجيش التحرير الوطنيَين يطلبان منهم الهروب إلى تونس، وتأسيس فريق وطني خدمة للثورة الجزائرية.

بدورها ذكرت خديجة عموش في تصريح لـ ”البي. بي. سي” أن مهمتها تمثلت في ربط الاتصال باللاعبين، سواء قبل أو أثناء اللعب، مضيفة: “كنت أتحدث معهم على انفراد، ثم سلمتهم وثيقة سفر مزورة تمكنوا بفضلها من الهرب سرًا من فرنسا”، حينها أحس الفرنسيون بالإهانة كرويًا مثلما شعروا بها سياسيًا”.

 

التضحية بالنجومية

يعتقد مؤرخون أن جرائم المستعمر الفرنسي تركت آثارا لا يمكن نسيانها بالنسبة للجزائريين، ولم يكن رياضيونا في المهجر في ذلك الوقت بمعزل عن الأحداث، فقرروا وضع حد لمشوارهم الاحترافي الواعد ورفضوا الالتحاق بالمنتخب الفرنسي رغم قوة الإغراءات التي لا يمكن الصمود أمامها.

وشدد نجم سانت إيتيان الأبدي رشيد مخلوفي أن مجازر 8 ماي 1945 التي قتل فيها عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين، ظلت عالقة في ذهنه منذ أن كان طفلاً لم يتجاوز التسع سنوات، لذلك لم يتردد لحظة واحدة في تلبية نداء الواجب عندما تقرر انشاء منتخب لكرة القدم، وهو الذي كان من الأسماء المعول عليها في المنتخب الفرنسي وما يمثل ذلك من مجد وشهرة ومال.

بدوره، شدد اللاعب محمد معوش في تصريح نقله موقع “ليماتنيتي“: “بالعودة في الزمان، يمكنني القول إن الندم لم يكن حاضرا في ذهن أي لاعب، لقد كنا ثوريين وناضلنا من أجل استقلال بلدنا الغالي”.

أما زيتوني فكان على عتبة الالتحاق بأعظم نادي في العالم وهو ريال مدريد، ففي مباراة جرت في مارس 1958 على ملعب بارك دو برانس بباريس أمام المنتخب الإسباني، قام الجزائري بمراقبة الفائز بالكرة الذهبية لأحسن لاعب في العالم، ألفريدو دي ستيفانو، فتمكن من شل حركته تمامًا طوال المباراة، ولم يترك له فرصة واحدة للتحرك، ما أثار إعجاب رئيس الميرنغي التاريخي، سانتياغو برنابيو، الذي يحمل ملعب الفريق الملكي اسمه اليوم، ولشدة انبهار الأخير بإمكانات زيتوني الذي كان يحمل رقم 5 تقدم نحوه في نهاية المباراة، وعرض عليه الانضمام إلى فريقه، قائلًا: “لا بد أن تلعب في أحسن فريق في العالم، إنه ريال مدريد، هل نوقع العقد؟”.

اللاعب الجزائري رد على أسطورة ريال مدريد بـ ”أشكرك على العرض، ولكنني سألعب قريبًا في أحسن فريق بالعالم”، وكانت تلك آخر مباراة يخوضها زيتوني مع المنتخب الفرنسي، بعد أن تعهد لزملائه بالالتحاق بهم في تونس لتشكيل فريق جبهة التحرير.

 

ضربة موجعة

خبر هروب اللاعبين الجزائريين أصاب السلطات الفرنسية بصدمة موجعة بعد انتشاره الواسع في وسائل الإعلام، وأفردت صحيفة “ليكيب” الرياضية ومجلة “باري ماتش” مساحة واسعة للحديث عن هذا الفرار الجماعي المزلزل، حيث غاب مصطفى زيتوني عن دفاع المنتخب الفرنسي، واختفى رشيد مخلوفي النجم الشاب موهبة الكرة الفرنسية، بعد أن استدعاهم المدرب بول نيكولا لتدعيم منتخب “الديكة” في منافسات مونديال 1958، شأنهما شأن عبد العزيز بن تيفور مهاجم موناكو ومحمد معوش مهاجم فريق ريمس.

وكتبت صحيفة “ليكيب” معلقة على حادثة الهروب: “أكيد أن الرياضة الوسيلة الأمثل والأروع للتقريب بين الأفراد، مباريات كرة القدم مناسبة لإقامة علاقات أخوية بين اللاعبين، لكن من السذاجة أن نعتقد بأنهم من الممكن أن يكونوا في مأمن من تأثير التيارات السياسية أو الاقتصادية الكبرى المولدة للنزاعات العالمية الحالية”.

وأضاف كاتب المقال أن جبهة التحرير التي كانت وراء الحدث المفاجئ، ظهيرة الإثنين، استلهمت قصة الهروب من الزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي قام باختطاف بطل العالم للسيارات مانوال فانجيوذ، لقد تصرفت بنفس الطريقة، لا شيء يمكن فعلًا أن يترك صدى كبيرا مثل ما فعله زيتوني ومخلوفي ومعوش والآخرون عشية اجتماع البرلمان، ومباراة دولية كبرى في كرة القدم يخوضها المنتخب الفرنسي”.

وتابعت “ليكيب” “بعيدا عن المجد لا يمكن انكار الهزة التي ستعقب هذا التصرف، العدوى قد تتوسع، في ذهننا بعض الرياضيين الكبار في ألعاب القوى مثل عامر وبراقشي وميمون، وفي الملاكمة نذكر حليمي وحامية، إلى جانب خمون الاسم البارز في مجال السباحة”.

الفيفا تتدخل لصالح المستعمر

على إثر هذا الحادث الصادم، قام الاتحاد الفرنسي لكرة القدم بتقديم شكوى لـ”الفيفا” برئاسة آرثر دريوري يطالب فيها بمنع ما أسماهم “هؤلاء اللاعبين المتمردين” من ارتداء قميص أي فريق.

واستجابت الفيفا للشكوى الفرنسية بمنع فريق “جبهة التحرير” من المشاركة في أي منافسة دولية، فيما فُسخت عقود اللاعبين مع الفرق الفرنسية التي كانوا يحملون ألوانها.

وإلى جانب قرار “الفيفا” بمنع الجزائريين من المشاركة الدولية، هددت أيضًا أي دولة تستقبل هذا الفريق الذي “ليست له سيادة” بالعقوبة، فيما تحدت كل من يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمجر وبلغاريا والصين وفيتنام وتونس وليبيا القرار الظالم وتمسكت باستضافة لاعبينا، الأبطال الذين جالوا وصالوا بلعبهم 90 مباراةً، إلى غاية الخامس جويلية 1962 تاريخ استقلال الجزائر واعتراف الفيفا بالفاف عضوا كامل الحقوق عام 1963.

وتم رفع الراية الجزائرية لأول مرة في العراق، كما عزف النشيد الوطني “قسمًا” قبل المباراة التي أقيمت في فيفري 1959 بالعاصمة بغداد، وكان من المفروض حضور السفير الفرنسي ولكنه انسحب غاضبا قبيل بداية المقابلة معلنا احتجاجه على وجود فريق جبهة التحرير.

وتسلح اللاعبون الجزائريون بنفس الروح القتالية فوق ميادين الكرة، حيث شكلوا منتخبا قويًا، فاز على تونس في مناسبات عديدة وتكرر نفس السيناريو مع المجريين واليوغسلاف ومنتخبات رومانيا وتشيكوسلوفاكيا ثم الاتحاد السوفيتي وقبلها مع الأردن والعراق وفيتنام.

ولا ينكر أحد أن فريق جبهة التحرير الوطني أدى رسالته بعلامة كاملة في إيصال أنين ومعاناة الشعب الجزائري إلى شعوب وسياسيي العالم، نصرة للنضال والكفاح داخل الوطن، واستقبل الرئيس هو شي مينه زيتوني ورفاقه المجاهدين في فيتنام، وحدث نفس الشيء في الصين مع رئيس الوزراء شو إن لاي.

ولا يختلف اثنان أن فريق “جبهة التحرير” لعب دورا مهما في تعريف المجتمع الدولي بالقضية الجزائرية العادلة وفضح جرائم المستعمر الغاشم في جولاته الكروية المكوكية التي قادته إلى بلدان عديدة، وساهم بقسط كبير في استقلال الجزائر عام 1962، وتأتي شهادة الزعيم الثوري عباس فرحات لتؤكد ذلك بقوله “إن زملاء بن تيفور أكسبوا الثورة الجزائرية عشر سنوات”.

ص\ب