الرئيس يدعو الأحزاب الى المساهمة في مراجعة قوانين الانتخابات والحياة السياسية

رهان “الجزائر الجديدة” يتطلب روح الديمقراطية التشاركية

رهان “الجزائر الجديدة” يتطلب روح الديمقراطية التشاركية
  • إصلاحات تشاركية تعيد للأحزاب دورها في صياغة المشهد السياسي

  • قوانين جديدة لترسيخ الشفافية وضمان نزاهة الاستحقاقات المقبلة

  • حوار وطني لبناء منظومة متوازنة تعزز الشرعية الشعبية والمؤسساتية

 

حينما دعا رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى إشراك الطبقة السياسية في مراجعة قانوني الانتخابات والأحزاب، كانت الدعوة إشارة سياسية عميقة فُسّرت على أنها “تحوّل نوعي في منهج الإصلاح السياسي نحو التشاور وصناعة التوافق”.في ظرف يتّسم بتكثيف مسار الإصلاحات وبروز الحاجة إلى تجديد الثقة في المؤسسات، تأتي هذه المبادرة لتؤكد أن “المنظومة السياسية تُبنى بالقوانين وبالتفاعل الجماعي حول مضامينها”، وأن الجزائر الجديدة تسعى إلى بلورة نموذج تشاركي يجعل الأحزاب جزءاً من الحل لا مجرّد متفرّج على قرارات تُصاغ في الكواليس. بهذه الروح، تفتح البلاد صفحة جديدة عنوانها: “الإصلاح من الداخل”، حيث يصبح الحوار السياسي أداة لإعادة هندسة المشهد الحزبي والانتخابي بما يضمن ديمومة الشرعية ومصداقية الاستحقاقات.

 

إصلاحات سياسية جديدة تواكب رهانات الظرف الراهن

لم تأتِ دعوة رئيس الجمهورية إلى مراجعة قانوني الانتخابات والأحزاب من فراغ، بل جاءت في سياق سياسي يفرض ضرورة إعادة ضبط القواعد التي تنظّم الحياة الحزبية والممارسة الديمقراطية، بعد أن كشفت التجارب السابقة عن ثغراتٍ حدّت من فعالية هذه المنظومة. فمنذ انتخابات 2021، تبيّن أن بعض الأحكام القانونية، رغم طابعها التنظيمي، لم تنجح في استيعاب الديناميكية الجديدة للمشهد السياسي ولا في تحفيز مشاركة واسعة، سواء من طرف الأحزاب أو المواطنين. لذلك، فإن إعادة النظر في هذه النصوص تعدّ استجابة موضوعية لرهانات المرحلة التي تتطلّب قوانين أكثر مرونة وواقعية، تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية، وتضمن تكافؤ الفرص بين مختلف الفاعلين.

الظرف الراهن يختلف عن الفترات السابقة من حيث طبيعة التحديات ودرجة النضج السياسي الذي بلغته التجربة الوطنية. فبعد أكثر من أربع سنوات من إطلاق مسار الإصلاحات، برزت الحاجة إلى مراجعة القوانين كخطوة لاستكمال البناء المؤسساتي وترسيخ قواعد “الجزائر الجديدة”. إن الرهان اليوم لم يعد مقتصراً على تنظيم الانتخابات فحسب، بل على إرساء ثقافة سياسية قائمة على المشاركة والمسؤولية المشتركة، وهو ما يتطلب نصوصاً قانونية تستوعب روح الديمقراطية التشاركية وتواكب تطور المجتمع.

كما أن مراجعة قانوني الانتخابات والأحزاب تعكس وعياً رسمياً بأن الإصلاح لا يمكن أن ينجح إلا من الداخل، عبر إشراك جميع القوى الوطنية في صياغة الأطر الناظمة للحياة السياسية. فالتجارب المقارنة تؤكد أن أي إصلاح يُفرض من الأعلى يبقى هشاً ومؤقتاً، بينما الإصلاح المبني على التوافق والمشاركة يكتسب شرعية مزدوجة: شرعية سياسية وقانونية، وأخرى اجتماعية وشعبية. هذه الرؤية هي ما يسعى إليه رئيس الجمهورية في دعوته إلى تشاور واسع يسبق أي تعديل تشريعي. وما يعزّز أهمية هذا التوجّه هو التزام الدولة بإرساء قواعد الاستقرار السياسي من خلال مؤسسات منتخبة ذات مصداقية، تنبع قوتها من نصوص قانونية عادلة ومن بيئة حزبية شفافة. لذلك فإن الإصلاح المنتظر لا يهدف فقط إلى تصحيح المسار، بل إلى بناء قاعدة صلبة تُمكّن الأحزاب من أداء دورها الحقيقي في التأطير والمرافعة وصناعة القرار، بما يتماشى مع تطلعات المجتمع ويخدم مشروع الدولة في المدى البعيد.

 

 

مبدأ التشاركية في التشريع السياسي

يُعدّ إشراك الأحزاب في صياغة التشريعات السياسية تحوّلًا جوهريًا في فلسفة الحكم، إذ ينقل العملية السياسية إلى منطق “التشاور والتشاركية”. فبعد عقودٍ كانت فيها القوانين تُصاغ داخل الغرف المغلقة ثم تُقدّم كأمر واقع، تأتي هذه المبادرة لتعيد الاعتبار للفعل السياسي التشاركي، وتمنح الفاعلين الحزبيين فرصة المساهمة في وضع القواعد التي ستنظّم نشاطهم وتمثيلهم للمواطنين. إنها عودةٌ للسياسة بمفهومها النبيل، حيث تصبح الأحزاب شريكًا لا تابعًا، وصوتها جزءًا من النقاش العام لا مجرد صدى لقرارات جاهزة.

هذا التوجه نحو “ديمقراطية تشاركية” يعكس نضجًا مؤسساتيًا ووعيًا رسميًا بضرورة إشراك مختلف القوى الوطنية في صنع القرار، خصوصًا في الملفات الحساسة المرتبطة بشرعية المؤسسات. فالتشاور حول قانون الانتخابات وقانون الأحزاب ليس مجرد خطوة شكلية، بل هو اعتراف صريح بأن الديمقراطية لا يمكن أن تُبنى بقرارٍ إداريّ، وإنما بتفاعلٍ جماعيّ يضمن تمثيل جميع الأطياف، ويحول دون إعادة إنتاج الأحادية أو إقصاء الكفاءات. ومن شأن هذا المسار أن يفتح الباب أمام نقاشات جادة حول طبيعة النظام الانتخابي، وآليات تمويل الأحزاب، وضوابط الترشح، وغيرها من القضايا الجوهرية التي تمس جوهر العمل السياسي.

كما يهدف هذا التوجّه إلى إعادة بناء الثقة المفقودة بين السلطة السياسية والطبقة الحزبية. فحين يُمنح الفاعل السياسي حق المشاركة في صياغة القوانين، يشعر أنه جزء من المشروع الوطني لا مجرد متلقٍ لتشريعات فوقية. هذه المشاركة تُنتج انخراطًا حقيقيًا في تنفيذ الإصلاحات، لأنها تُحمّل الأحزاب مسؤولية جماعية في نجاحها أوفشلها. وهي أيضًا وسيلة لإحياء النقاش السياسي داخل المؤسسات الحزبية نفسها، وتحفيز النخب على تقديم مقترحات عملية بدل الاكتفاء بالنقد أو الانسحاب من الساحة. وبهذا، يصبح الحوار وسيلة لإثراء النصوص القانونية بالخبرة الميدانية والسياسية للأحزاب، بدل أن تبقى هذه القوانين حبيسة الرؤية التقنية والإدارية. فالممارسة الديمقراطية لا تُقاس بعدد الانتخابات التي تُنظَّم، بل بمدى إشراك الفاعلين في رسم قواعدها. لذلك، فإن التشاركية في التشريع تمثل خطوة نوعية نحو ترسيخ ثقافة سياسية جديدة في الجزائر، قوامها الشفافية، الحوار، والمسؤولية المشتركة في بناء مؤسسات قوية وفاعلة.

 

إصلاحات تقنية تعزّز نزاهة الاستحقاقات وتحصّن العملية الانتخابية

في كل عملية إصلاح انتخابي، يبرز البعد التقني كعاملٍ حاسمٍ في ضمان نزاهة وشفافية الاستحقاقات، إذ لا يمكن تحقيق الديمقراطية الحقيقية دون أدوات وإجراءات عملية تحصّن العملية الانتخابية من الاختلالات السابقة. لذلك، جاءت التعديلات التقنية التي أشار إليها رئيس الجمهورية كجزءٍ من رؤية شاملة لتصحيح مواطن الخلل، وتطوير الإطار القانوني بما يواكب تطورات الممارسة الانتخابية في الجزائر. فالتحدي اليوم لا يتمثل فقط في النصوص، بل في آليات تطبيقها، بدءًا من إعداد القوائم، مرورًا بعملية التصويت، ووصولًا إلى إعلان النتائج ومراقبتها.

وتكمن أهمية هذه الإصلاحات التقنية في قدرتها على “تحييد العوامل البشرية التي كانت محلّ جدل”، من خلال اعتماد الرقمنة كخيار استراتيجي لضمان الشفافية. فالانتقال نحو منظومة انتخابية رقمية متكاملة سيسمح بتقليص هامش الخطأ والتلاعب، ويضمن المراقبة الفورية للبيانات من قبل الهيئات المعنية. كما أن تطوير القوائم الانتخابية وتحديثها بشكل دوري يساهم في تعزيز مصداقية النتائج ويقوّي ثقة الناخبين في العملية السياسية. كل هذه الإجراءات التقنية ضرورة مؤسساتية لبناء استحقاقاتٍ نظيفة تُفرز مؤسساتٍ ذات شرعية حقيقية.

من جهة أخرى، تُعتبر هذه الإصلاحات التقنية ترجمة عملية لمبدأ “تكافؤ الفرص بين المترشحين”، عبر وضع ضوابط دقيقة للتمويل الانتخابي والإشهار السياسي، وتحديد معايير دقيقة لاعتماد المترشحين، مما يحدّ من الفوضى ويُعيد الاعتبار للمنافسة الشريفة. كما أن تطوير آليات المراقبة الميدانية، سواء من قبل السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات أو من خلال إشراك المجتمع المدني، يسهم في خلق بيئة انتخابية شفافة تُرسّخ ثقافة الديمقراطية الحقيقية وتقطع مع الشكوك التي رافقت الاستحقاقات السابقة.

ولعلّ الأثر الأبرز لهذه التعديلات التقنية هو إرساء قناعة مجتمعية بأن “الانتخابات لم تعد لعبة مغلقة”، وأن صوت المواطن أصبح يُترجم فعليًا في النتائج النهائية. فحين يشعر الناخب أن صوته له وزنٌ وقيمة، يستعيد ثقته في المؤسسات وينخرط مجددًا في الشأن العام. وهنا، تتكامل الجوانب التقنية مع الأبعاد السياسية لتشكّل معًا الضمانة الأساسية لنزاهة الانتخابات، وتدشّن مرحلة جديدة تُبنى فيها الشرعية على أساس الإرادة الشعبية لا على التوازنات الظرفية.

 

إعادة بناء الثقة بين المواطن والعملية السياسية

تُعدّ الثقة بين المواطن والدولة حجر الزاوية في أي مسار ديمقراطي ناجح، وهي العنصر الذي يحدّد مدى انخراط المجتمع في العملية السياسية ومشاركته في صنع القرار. لذلك، فإن إشراك الأحزاب في مراجعة القوانين الانتخابية والسياسية يندرج في إطار مشروع أوسع يهدف إلى “ترميم جسور الثقة المكسورة” بين المواطن ومؤسساته. فقد عانى المشهد السياسي في مراحل سابقة من فجوةٍ متزايدةٍ بين الطرفين، بسبب هيمنةٍ للبيروقراطية، وغيابٍ للشفافية في تسيير الاستحقاقات. واليوم، تسعى الدولة من خلال هذه المقاربة التشاركية إلى القول للمواطن: إن صوته يُسمع، وإن رأيه يُحترم، وإن التغيير لم يعد شعارًا، بل ممارسةً تتجسّد على أرض الواقع.

 

استعادة الثقة لا تتم بالتصريحات، بل عبر الأفعال الملموسة التي تبرهن على أن العملية السياسية تسير في اتجاه الإرادة الشعبية. ومن هذا المنطلق، يشكّل انفتاح السلطة على الأحزاب بكل أطيافها، بما فيها المعارضة البنّاءة، خطوة محورية لإشاعة مناخ من الطمأنينة السياسية لدى المواطن، إذ يشعر بأن اللعبة الديمقراطية لم تعد حكراً على فئة أو تيار معين، بل فضاء مفتوح أمام الجميع ضمن قواعد متكافئة وواضحة. وكلما توسعت دائرة الحوار السياسي، اتسعت معها دائرة الانتماء الوطني، وارتفع منسوب الثقة في المؤسسات المنتخبة.

كما أن هذه الثقة لا تقتصر على العلاقة بين المواطن والدولة، بل تمتد لتشمل العلاقة بين المواطن والأحزاب نفسها، التي تحتاج هي الأخرى إلى مراجعة خطابها وأدائها لاستعادة مصداقيتها. فالإصلاح السياسي لا يُختزل في تغيير القوانين، بل في تجديد النخب السياسية وتأهيلها للاضطلاع بدورها في التأطير والتوعية والمرافعة. وعندما يرى المواطن أحزاباً فاعلة تشارك في صياغة القوانين وتدافع عن مصالحه ضمن أطر مؤسساتية، فإنه يُعيد النظر في موقفه السلبي من المشاركة الانتخابية، ويستعيد ثقته في جدوى الفعل السياسي.

وفي النهاية، يمكن القول إن بناء الثقة عملية تراكمية تتطلب تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع. فكل إجراء تشريعي تشاركي، وكل خطوة إصلاحية تتسم بالشفافية، تزرع بذور الثقة في وعي المواطن، وتؤسس لمواطنة فاعلة تُدرك أن الديمقراطية ليست امتيازاً ممنوحاً من السلطة، بل حقّاً يُمارَس في إطارٍ من المسؤولية المشتركة. بهذا المعنى، يشكّل الحوار حول القوانين الانتخابية محطة جديدة في مسار استعادة الثقة، وإعادة ربط السياسة بحياة الناس اليومية.

م ع