أنوار من جامع الجزائر

رسالة الجامع العلمية – الجزء الأول –

رسالة الجامع العلمية – الجزء الأول –

مَعَاشِرَ الْمُؤْمنِينَ، أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي الْمُقَصِّرَةَ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَىٰ، فَهِيَ وَصِيَّةُ اللَّهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَالَ تَعَالَىٰ: ” وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ” النِّسَاءِ: 131. أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، سَتَحِلُّ عَلَىٰ بَلَدِنَا ذِكْرَىٰ غَالِيَةٌ وَمُنَاسَبَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ يَوْمُ الْعِلْم، الَّذِي يُصَادِفُ السَّادِسَ عَشَرَ منْ شَهْرِ أَفْرِيل، هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يُذَكِّرُنَا بِعَظَمَةِ الْعِلْم وَمَكَانَتِهِ فِي دِينِنَا الْحَنِيفِ، وَبِدَوْرِ الْعُلَمَاءِ فِي نَهْضَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعَادَةِ مَجْدِهَا. إِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي نَحْتَفِي فِيهِ بِالْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْحَميدِ بْنِ بَادِيسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، الَّذِي حَمَلَ لِوَاءَ الْعِلْم وَالْإِصْلَاحِ، وَأَيْقَظَ الْوَعْيَ فِي الْأُمَّةِ، وَكَانَ شِعَارُهُ الْخَالِدُ: “الْإِسْلَامُ دِينُنَا، وَالْعَرَبِيَّةُ لُغَتُنَا، وَالْجَزَائِرُ وَطَنُنَا. إِنَّ يَوْمَ الْعِلْم لَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرَىٰ عَابِرَةٍ، بَلْ هُوَ مَحَطَّةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي أَهَميَّةِ الْعِلْم فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَنَهْضَةِ الْأُمَم. وَلَقَدْ كَانَ الْجَامعُ عَبْرَ التَّارِيخِ  الْمَحْضِنَ الْأَوَّلَ لِلْعِلْم، منْهُ انْطَلَقَتِ الْحَضَارَةُ الْإِسْلَاميَّةُ، وَفِي رِحَابِهِ تَعَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ أُصُولَ الدِّينِ وَمُخْتَلَفَ الْعُلُوم النَّافِعَةِ، ممَّا جَعَلَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَاميَّةَ قَائِدَةً لِلْعَالَم قُرُونًا طَوِيلَةً. عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ لِلْجَامعِ فِي الْإِسْلَام رِسَالَةً عَظِيمَةً، فَهُوَ لَيْسَ مَكَانًا لِأَدَاءِ الصَّلَوَاتِ فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ مَرْكَزُ إِشْعَاعٍ عِلْميٍّ وَثَقَافِيٍّ، وَمَدْرَسَةٌ مَفْتُوحَةٌ يَتَعَلَّمُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ أُمُورَ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَلَقَدْ كَانَ الْجَامِعُ مُنْذُ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ مَهْدًا لِلْعِلْمِ، وَمَنْبَعًا لِلهِدَايَةِ، تَتَنَزَّلُ فِيهِ الرَّحْمَاتُ، وَتَرْتَفِعُ فِيهِ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ. فِيهِ تَعَلَّمَ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ عُلُومَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَفِيهِ نَهَلُوا مِن مَعَارِفِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِهِ. وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ فِي مَسْجِدِهِ الْجَامعِ، وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَىٰ طَلَبِ الْعِلْم النَّافِعِ، حَتَّى صَارَ الْجَامِعُ أَوَّلَ مَعْلَمٍ لِلنَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ فِي التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” رواه مسلم. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَىٰ عَظِيم مَكَانَةِ الْعِلْم فِي الْإِسْلَام، وَأَنَّ الْجَامعَ هُوَ مَحْضِنُهُ الْأَوَّلُ. وَإِذَا كَانَ لِلْجَوَامعِ هَذَا الدَّوْرُ الرِّيَادِيُّ فِي بِنَاءِ الْعُقُولِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، فَإِنَّ جَامعَ الْجَزَائِرِ يُمَثِّلُ امْتِدَادًا لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الْعَظِيمَةِ، لِيُؤَكِّدَ اسْتِمْرَارَهَا فِي عَصْرِنَا الْـحَاضِرِ. فَهٰذَا الصَّرْحُ الشَّامخُ، الَّذِي يُعَدُّ ثَالِثَ أَكْبَرِ جَامعٍ فِي الْعَالَم، لَا تَقْتَصِرُ عَظَمَتُهُ عَلَىٰ بُنْيَانِهِ وَمسَاحَتِهِ، بَلْ تَتَجَلَّىٰ فِي دَوْرِهِ الْـحَضَارِيِّ وَالْعِلْميِّ وَالثَّقَافِيِّ. إِنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَعْلَمٍ معْمَارِيٍّ، بَلْ هُوَ قَلْبٌ نَابِضٌ بِالْعِلْم وَالْإِيمَانِ، وَمَرْكَزٌ لِنَشْرِ الْفِكْرِ الْإِسْلَاميِّ الْوَسَطِيِّ، وَسَاحَةٌ تَتَعَانَقُ فِيهَا الْأَصَالَةُ بِالْمُعَاصَرَةِ، حَيْثُ يَجْمَعُ بَيْنَ تَعَالِيم الدِّينِ الْـحَنِيفِ وَمُسْتَجِدَّاتِ الْعُلُوم النَّافِعَةِ، تَحْقِيقًا لِرِسَالَةِ الْإِسْلَام فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْم وَالْإِيمَانِ، وَالتَّقَدُّم وَالْهُوِيَّةِ. إِنَّ منْ مَعَالِم جَامعِ الْجَزَائِرِ الْعِلْميَّةِ الْبَارِزَةِ دَارَ الْقُرْآنِ الْكَرِيم، الَّتِي تُعَدُّ جَامعَةً مُتَخَصِّصَةً، تَجْمَعُ بَيْنَ التَّعْلِيم الْقُرْآنِيِّ وَالْمَعَارِفِ الْإِسْلَاميَّةِ وَالْعُلُوم الْـحَدِيثَةِ، حَيْثُ تُوَفِّرُ تَخَصُّصَاتٍ عِلْميَّةً مُتَكَاملَةً، منْ بَيْنِهَا:الْقُرْآنُ وَمَعَارِفُ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ، الْقُرْآنُ وَحِوَارُ الْـحَضَارَاتِ وَالثَّقَافَاتِ، الْقُرْآنُ وَالْمَعَارِفُ الشَّرْعِيَّةُ، وَغَيْرُهَا منَ التَّخَصُّصَاتِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْ رُؤْيَةٍ شَاملَةٍ لِلْعِلْم، تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَصَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ، ممَّا يَجْعَلُ منْ دَارِ الْقُرْآنِ نَمُوذَجًا فَرِيدًا فِي التَّعْلِيم الْإِسْلَاميِّ الْمُتَكَاملِ. إِضَافَةً إِلَىٰ ذَٰلِكَ، يَضُمُّ الْمَرْكَزُ الثَّقَافِيُّ التَّابِعُ لِجَامعِ الْجَزَائِرِ الْعَدِيدَ منَ الْأَنْشِطَةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالتَّوْعَوِيَّةِ، حَيْثُ تُنَظَّمُ فِيهِ مُحَاضَرَاتٌ عِلْميَّةٌ وَنَدَوَاتٌ ثَقَافِيَّةٌ، تُنَاقِشُ قَضَايَا الْأُمَّةِ وَتُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى الْقِيَم الْإِسْلَاميَّةِ السَّمْحَةِ، كَمَا يُسْهِمُ فِي التَّصَدِّي لِلْأَفْكَارِ الْهَدَّامَةِ عَبْرَ نَشْرِ الْوَسَطِيَّةِ وَالِاعْتِدَالِ.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر