-
بين الكلمة والموقف… الجزائر ترسم حدود الإحترام والسيادة
-
منبر الأمم المتحدة يتحول إلى مرآة تكشف زيف الإنقلابيين
-
لغة صارمة… ورسائل بليغة لا تحتاج إلى “ترجمان”
في لحظة نادرة من الخطاب الدبلوماسي، توقّف وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، أحمد عطّاف، أمام منبر الأمم المتحدة ليقول عبارته اللافتة: «أستسمحكم بأن أعيد على مسامعكم هذه الجملة الأخيرة باللغة الفرنسية». الأمر كان رسالة مُشفّرة وُجّهت إلى الزمرة الانقلابية في مالي التي تجاوزت حدود اللباقة وهاجمت الجزائر من ذات المنبر.
بتلك الجملة، اختار عطّاف أن يخاطبهم مباشرة دون مترجم أو وسيط، ليقول لهم بلسانهم إن الجزائر لا تردّ على الشتائم بالشتائم، بل بالوضوح، وإنها حين ترفع صوتها، فإنها تفعل ذلك بلسان يفهمه الجميع، وبحزم يُعيد تعريف الاحترام والكرامة في ساحة الأمم.
بالفرنسية هذه المرّة… رسالة لمن لا يفهم إلا لغته
قرار الوزير أحمد عطّاف إعادة عبارته بالفرنسية كان فعلًا سياسيًا محسوبًا بعناية، اختار به أن يوجّه خطابه مباشرة إلى من استهدف الجزائر في عقر الأمم المتحدة، من دون وسطاء أو ترجمات قد تُضعف وقع الرسالة. فقد أدرك عطّاف أن الردّ على “الزمرة الانقلابية” في مالي لا يكون بلغة الدبلوماسية المواربة، بل بلغة يفهمونها جيدًا.
بهذه الخطوة، أعاد الوزير تعريف مفهوم الخطاب الأممي: رسالة دقيقة مشفّرة بالكرامة، تتوجّه إلى من فقدوا البوصلة وتجاوزوا حدود الاحترام. فاللغة، هنا أداة محاسبة، تُعيد التذكير بأن من يستبيح الكلمة لن يُمنح امتياز الفهم إلا حين يُواجه بلغته. لقد كانت الجملة الفرنسية بمثابة “صفعة مؤدّبة”، اختزلت مسارًا طويلاً من ضبط النفس والصبر، ورسّخت مبدأ أن الجزائر حين تتكلم، فإنها لا تصرخ، لكنها تُسمِع، وحين تردّ، فإنها لا تُهين، لكنها تُعرّي من يحتاج إلى درس في السياسة قبل اللغة.
إنقلابيو باماكو… حين يهاجم الضعيف ليُخفي فشله
في رده الحازم، لم يكن الوزير عطّاف يواجه دولة ذات شرعية، بل زمرة انقلابية تبحث في كل مناسبة عن عدوّ خارجي تُعلّق عليه إخفاقاتها. فحين قال إن “الانقلابي الأصيل لا يجيد سوى فن تعليق شماعة الفشل على الغير”، كان يضع إصبعه على جوهر الأزمة في مالي: سلطة فاقدة للشرعية، تحاول تغطية عجزها عن استعادة الأمن والاستقرار، عبر افتعال خصومات وهمية مع الجزائر. فالخطاب العدائي من باماكو لم يكن سوى قناعٍ لواقع مأزوم داخليًا، تُحاصره التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وتفتك به النزاعات الداخلية وانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.
منذ أن أطاحت الانقلابات العسكرية بمسار الانتقال الديمقراطي في مالي، دخلت البلاد في دوامةٍ من التوترات والتصعيد، حيث تحوّل الخطاب الرسمي إلى أداة لتبرير الإخفاق، بدل أن يكون وسيلة لحشد الطاقات نحو البناء. فالهجوم على الجزائر – وهي الدولة التي احتضنت مسار السلام والمصالحة – ليس سوى محاولة لتصدير الأزمة نحو الخارج، وتشتيت الانتباه عن الانهيار الداخلي. ومن هنا، فإن “ثرثرة الجندي الجلف” كما وصفه عطّاف، لم تكن سوى انعكاسٍ لارتباك نظامٍ فقد البوصلة، فاختار المواجهة الكلامية على الإصلاح الفعلي.
ولعل المفارقة أن الجزائر، التي تبنّت منذ البداية مبدأ “عدم التدخل” واحترام سيادة الدول، كانت وما تزال أكثر حرصًا على وحدة واستقرار مالي من بعض أبنائها. فقد احتضنت المفاوضات، ورعت اتفاق السلام، وقدّمت الدعم السياسي واللوجستي، دون أن تسعى إلى مكاسب أو نفوذ. غير أن الانقلابيين الذين يفتقدون الشرعية، يسعون إلى تقويض كل ما يربط الجزائر بمالي، لأنهم يدركون أن استقرارهم الزائف يقوم على افتعال الخصوم، لاعلى بناء المؤسسات.
هكذا، تحوّل المنبر الأممي إلى ساحة مواجهة رمزية بين منطق الدولة ومنطق العصابة، بين صوت الحكمة وصوت الهذيان. فالوزير عطّاف، بخطابه المتزن والقوي، لم يردّ على شخصٍ بعينه، بل على ظاهرةٍ تتكرّر كلما تولّى أمر الشعوب من لا يفقه معنى الدولة. وفي النهاية، كان الردّ الجزائري بمثابة مرآة أخلاقية، أظهرت الفرق بين من يصنع التاريخ ومن يُشوّه الجغرافيا.
الجزائر… دولة تُهاجم لأنها ترفض التبعية
ما كشفه خطاب الوزير عطّاف بجلاء هو أن الجزائر تُستهدف لا لأنها تَخطئ، بل لأنها ترفض أن تكون تابعًا، وتصرّ على أن تبقى قراراتها نابعة من سيادتها الوطنية. فحين أشار إلى أن “الاستقلالية التي استرجعتها الجزائر” تُقلق بعض الأطراف، كان يختصر خلفيات الهجوم المالي: فالعقلية الانقلابية لا تحتمل وجود دولة مستقلة الرأي والموقف، ترفض الإملاءات وتتمسك بثوابتها. لهذا اختار عطّاف أن يخاطبهم بلُغتهم، كي يسمعوا جيدًا ما عجزوا عن فهمه سياسيًا وأخلاقيًا: أن الجزائر لا تُدار من الخارج، ولاتُرهبها الأصوات النشاز مهما ارتفع صداها.
فالجزائر التي واجهت الاستعمار وخرجت من رحم الثورة لا يمكن أن تنحني أمام انقلاباتٍ تُدار من وراء الستار. إنها تدفع اليوم ثمن مواقفها المبدئية، لأنها لا تصفق لمشاريع التقسيم ولا تُبارك سياسات العمالة، ولأنها تقف بثبات إلى جانب الشعوب لاالطغاة. فالهجوم عليها ليس سوى انعكاسٍ لموقفٍ سياسيٍّ واضح: دولة لا تُجامل في الحق، ولا تساوم على أمنها القومي ولا على وحدة جيرانها. من هنا، فإن “وقاحة” باماكو ليست إلا ردّ فعلٍ على هذا الثبات، وعلى إصرار الجزائر على الحلول السلمية، والحوار بدل العنف، والدبلوماسية بدل الانقلابات.
إن ما يثير حفيظة خصوم الجزائر هو أن مواقفها تُترجم إلى مبادرات ملموسة. فهي التي تتصدر جهود الوساطة، وتقود محاور الاستقرار في الساحل، وتُحافظ على حضورها الدولي كصوتٍ للعقل والتوازن. ولذلك، فإن الهجمات الكلامية التي يطلقها الانقلابيون لا تُقوّض مكانة الجزائر، بل تُعزّزها. فكلما ارتفع ضجيج التشويه، اتّضح أكثر أن الجزائر تمشي بخطى ثابتة في طريق لا يروق لأصحاب الأجندات الضيقة، الذين يكرهون وضوح المواقف بقدر ما يخافون من صدقها.
لقد تحوّل الردّ الجزائري في الأمم المتحدة إلى إعلان موقفٍ مبدئي: لا مساومة على الكرامة، ولا تراجع عن دعم الشعوب، ولا تهاون مع من يستخفّ بالعلاقات التاريخية. فمن اختار الاصطفاف مع الفوضى عليه أن يتحمل وزرها، أما الجزائر فماضية في خيارها الثابت: “منطق الدولة”، لا “منطق العصابة”، وهو ما يجعلها في نظر الانقلابي خصمًا لا يُحتمل، لأنها ببساطة “مرآة تُذكّره بما لا يريد أن يراه.”
الجزائر تردّ بلغة الدولة لا بلغة الشتائم
وفي مواجهة الانفعال المالي، اختارت الجزائر أن تردّ بردٍّ سياديٍّ متّزن، لا ينجرّ إلى المهاترات ولا يسقط في فخّ الخطاب المنفعل.
هذا الاختيار في حد ذاته يُجسّد ما يمكن تسميته بـ”الدبلوماسية الأخلاقية” التي تميّز الجزائر، إذ توازن بين الحزم والرصانة، وتربط بين الموقف المبدئي والاحترام الكامل لأدبيات الحوار الدولي. ففي الوقت الذي تتفوه فيه الطغمة الانقلابية بعباراتٍ سوقية، تردّ الجزائر بخطابٍ راقٍ يُعرّي الجهل السياسي دون أن يفقد هيبته. وهذا التباين ليس شكليًا فحسب، بل يعكس جوهر الفرق بين دولةٍ تملك مؤسساتٍ راسخة، وأخرى تحكمها نزوات سلطةٍ فُرضت بالدبابة.
كما أن هذا الردّ أجهض محاولات الاستفزاز التي كانت تسعى لتحويل المنبر الأممي إلى ساحةٍ للتجريح. لقد أراد الانقلابيون أن يجرّوا الجزائر إلى معركةٍ كلاميةٍ بلا ضوابط، فإذا بالجزائر تحوّلها إلى درسٍ في السيادة والكياسة، تُذكّر من جديد بأن من يحمل مشروعًا وطنيًا حقيقيًا لا يُهدّد ولا يُساوم، بل يشرح، ويُحاجج، ويُقنع. ولعلّ أهم ما في هذا الموقف أنه أرسل إشارة إلى المجتمع الدولي بأن الجزائر، رغم الاستفزازات، لا تزال تعتبر مالي بلدًا شقيقًا، وأنها تفصل بين الشعب والطغمة. فهي لا تُخاصم الدول بل الانحرافات، ولا تردّ على الشتائم بشتائم، بل بالتمسك بثوابتها، واضعة الخط الأحمر الواضح: الكرامة الوطنية لا تُمس، والصبر لا يعني الضعف، والحزم لا يعني القطيعة.
يدٌ ممدودة… وصبرٌ لا ينفد في وجه الجفاء
رغم القذف اللفظي والتطاول السياسي، اختارت الجزائر أن تختم خطابها برسالةٍ ساميةٍ تعبّرعن ثبات مبادئها وعلوّ كعبها الأخلاقي، إذ أكد الوزير عطّاف أن “يد الجزائر تبقى ممدودة”، وأن “مخزون صبرها لم ولن ينضب”، وهي عبارة تختصر مدرسةً دبلوماسية كاملة قوامها الحكمة والاتزان. فالدول الواثقة من نفسها لا تردّ على الانحراف بالانفعال، بل تواصل السير على نهجها، وتمدّ يدها مرّة بعد أخرى، لأنّها تدرك أن الشعوب لا تُختزل في حكّامٍ عابرين، وأن التاريخ لا يرحم من يفرّط في روابط الجغرافيا والدم والمصير المشترك.
في هذا الإطار، يظهر أن الجزائر لا ترى في الأزمة الراهنة مع باماكو سوى “عارض سياسي مؤقت”، ناتج عن غياب الشرعية وضبابية الرؤية لدى سلطةٍ انقلبت على شعبها قبل أن تنقلب على جيرانها. فهي تتعامل مع الموقف بعين الدولة، لا بعين الجرح الشخصي، وتفصل بين ما هو عابر وما هو ثابت. فالعلاقات الجزائرية-المالية أعمق من أن تُقاس بعبارةٍ طائشة أو خطابٍ متشنّج، لأنها بُنيت على تاريخٍ من النضال المشترك والتكامل الحدودي والتعاون الأمني والاقتصادي الممتد لعقود. كما أن دعوة الوزير عطّاف إلى التمييز بين “الطغمة المتآمرة” و”الشعب المالي الشقيق” تعبّر عن رؤيةٍ إنسانية ترى في الاستقرار المالي مصلحة جزائرية وإفريقية في آنٍ واحد. فدعم الجزائر لمالي لم يكن يومًا مشروطًا بالولاءات، بل انطلق دومًا من قناعة بأن الأمن لا يتجزأ، وأن انهيار أي دولة في الساحل ينعكس على المنطقة بأكملها. ومن هنا، فإن استمرار الجزائر في عرض الوساطة والسعي للحوار ليس ضعفًا، بل إصرارًا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروعٍ وطني اختُطف بالقوة.
وفي النهاية، يخرج الموقف الجزائري من هذه الأزمة أكثر تماسكًا، بعدما قدّم للعالم درسًا في كيف تكون الدبلوماسية “قوة هادئة” تمزج بين الردّ الحازم والتمسك بالأخلاق، وبين حماية السيادة والإيمان بأخوة الشعوب. فـ”اليد الممدودة” ليست تنازلاً، بل تأكيدا على أن الجزائر، في زمن الانقلابات، ما زالت آخر قلعة للدولة الراشدة في الساحل، تحاور من أجل السلام، وتُواجه من أجل الحق، وتبقى صامدة لأن التاريخ يقف إلى جانبها لا أمامها.
م ع