اليوم الوطني للجيش الوطني الشعبي

رابطة مقدسة بين الشعب وجيشه

رابطة مقدسة بين الشعب وجيشه

أحيت الجزائر، الاثنين، الرابع من أوت، اليوم الوطني للجيش الوطني الشعبي، في محطة مفصلية ترسخ دلالتها “الرابطة المقدسة بين الشعب وجيشه”، كما وصفها رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، السيد عبد المجيد تبون.

مناسبة تختزل في طياتها سردية وطنية ممتدة من جيش التحرير الوطني إلى جيش جمهوري عصري، يعمل “بالتزام ثابت ووطنية خالصة”، حاملا لواء السيادة والدفاع عن وحدة الوطن في محيط إقليمي مضطرب، ومساهما بفعالية في مشروع بناء الدولة القوية والعادلة. وإذا كانت رمزية هذا اليوم الوطني تعكس تقدير الأمة لتضحيات جيشها، فإن عمقها الحقيقي يتجلى في طبيعة العلاقة التي تربط بين الجزائريين ومؤسستهم العسكرية، تلك العلاقة التي تجاوزت حدود الانتماء الوظيفي لتتحول إلى “عقيدة شعبية” راسخة، تؤمن بأن الجيش ليس جهازا معزولا، وإنما هو امتداد طبيعي للمجتمع، يولد من رحمه ويحمل تطلعاته وهمومه.

 

عقيدة جيش نابع من الشعب

Peut être une image de ‎7 personnes et ‎texte qui dit ’‎الدفاي الوطني ងត ለም!! 4 - HATIONA " أوت 2025-7962 اليوم الوطني تلجيش الوطني الشعبي ப்வி 1962 اليوم الوطني للبيش الوهني الشعبعي f www.mdn.dz وزارة الدفاع الوطني الجزائرية‎’‎‎

مقولة “الجيش من صلب الشعب” التي أكد عليها رئيس الجمهورية في أحد تصريحاته هي خلاصة مسار تاريخي فريد بدأ مع ثورة التحرير المجيدة، حيث تشكل جيش التحرير الوطني من أبناء الريف والمدن، من الفلاحين والطلبة، من العمال والكوادر، ليتحول بعد الاستقلال إلى جيش وطني شعبي يحمل في تركيبته الاجتماعية كل مكونات الأمة الجزائرية. إنها “رابطة وجودية” تتجاوز المفهوم التقليدي للعلاقة بين الدولة ومؤسساتها. وتتجلى هذه الرابطة في كل المناسبات الوطنية، حيث يشهد المواطن الجزائري حضوره الواسع في الفعاليات العسكرية، كما حدث خلال “الاستعراض العسكري التاريخي” في الذكرى السبعين لاندلاع الثورة، والذي تحوّل إلى مشهد وطني جامع، عكس التفاف الشعب حول جيشه، وثقته في عقيدته وقيادته. هذا التلاحم الشعبي العسكري لم يكن وليد ظرف آني، وإنما هو نتاج لعقود من الثقة المتبادلة التي ترسخت في وعي الجزائريين منذ الاستقلال. في قلب هذه العلاقة، تتموضع العقيدة الدفاعية للجيش الوطني الشعبي، عقيدة تنأى عن المغامرات وتقوم على “الدفاع عن السيادة الوطنية دون قيد أو شرط”، كما شدد الرئيس تبون، مؤكدا أن سلاح الجيش “للدفاع عن حدود الجزائر”. هذه العقيدة تعكس التزام الجزائر بمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وتجعل من جيشها قوة عقلانية متوازنة، قادرة على حماية البلاد دون الانجرار إلى الصراعات العبثية. وما يعزز قوة هذه العقيدة هو التزامها الدستوري والوطني، حيث ينص الدستور الجزائري صراحة على المهام الدفاعية للجيش، ويؤكد أن وظيفته الأساسية هي “الحفاظ على وحدة الوطن وسلامة ترابه”، وهو ما يجسد الانسجام التام بين الشرعية الدستورية والشرعية الشعبية. فالجيش هنا هو “الضامن الأصيل لسيادة الدولة واستقلال قرارها”. وفي زمن تزداد فيه التحديات وتعصف فيه بالمنطقة تحولات جيوسياسية معقدة، تبقى هذه العقيدة الثابتة صمام أمان، تمنح الجزائر موقعا متوازنا إقليميا، وتجعل من الجيش الوطني الشعبي “قوة سيادية مسؤولة”، تجسّد إرادة الأمة في الدفاع عن أمنها ومصالحها العليا بوعي، لا بانفعال، وبتخطيط، لا بردود أفعال عشوائية. وإذا كانت العقيدة الدفاعية للجيش الوطني الشعبي تنبع من روح الانتماء إلى الشعب ومن التزامه الثابت بالمبادئ الدستورية والدولية، فإن هذه العقيدة لم تبق مجرد شعارات أو خطوط نظرية، وتجسدت على أرض الواقع عبر مسار طويل من “التحديث الشامل وبناء الجاهزية القتالية”، جعل من المؤسسة العسكرية قوة متطورة تمتلك كل مقومات العصر، دون أن تتخلى عن قيمها الأصلية ومبادئها الثابتة.

 

مسار التحديث والتفوق العملياتي

بلوغ الجيش الوطني الشعبي لمستويات عالية من التحديث هو نتيجة لرؤية استراتيجية تبناها بوضوح الفريق أول السعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، حين أكد أن الهدف هو “بناء جيش مهاب الجانب، عصري ومتكامل، يسير على نهج جيش التحرير بروحه ومبادئه”. هذا المسار شمل كل الجوانب: من التجهيز إلى التكوين، ومن التكنولوجيا إلى الاحترافية العملياتية. وقد تحققت خلال السنوات القليلة الماضية “نقلة نوعية” على مستوى التسليح والتجهيز، حيث أدخلت القوات المسلحة الجزائرية منظومات متطورة من الأسلحة والمعدات، تعتمد على تكنولوجيا حديثة ومعقدة، ما مكنها من تحسين قدراتها الدفاعية والهجومية، ورفع قدرتها على التعامل مع مختلف السيناريوهات الميدانية. وهي تحولات لم تتم بمعزل عن التكوين النوعي، وترافقت مع برامج تدريبية صارمة، تضمن أن يبقى المقاتل الجزائري في أعلى درجات الجاهزية. وفي الميدان، برزت نتائج هذا التطور بوضوح في التمارين التكتيكية والبيانية التي نظمتها القوات المسلحة خلال الفترة الأخيرة، والتي أظهرت “مستوى عالٍ من التنسيق والدقة والقدرة على تنفيذ المهام المعقدة”، حتى في البيئات الجغرافية الصعبة. وقد أثبتت هذه التمارين، أن الجيش الوطني الشعبي ليس فقط مجهزًا جيدًا، بل هو جيش مدرب ومجرب، قادر على الرد السريع والحاسم. أما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، فقد حققت وحدات الجيش إنجازات نوعية، بفضل “الاحترافية العالية والاستخبارات الميدانية الدقيقة”، ما ساهم في إحباط مخططات خطيرة وتأمين الحدود، وتفكيك شبكات تسلل وتهريب. وقد اكتسب الجيش خبرة ميدانية عميقة في هذا المجال، جعلت منه مرجعا في مكافحة التهديدات غير التقليدية في المنطقة. هذا التحديث المستمر والفعّال، يعكس تطورا تقنيا، و”إرادة سيادية” في بناء جيش يعتمد على الذات، ويواكب المتغيرات العالمية دون تبعية. جيش ينتمي إلى العصر بقدراته، وإلى الأمة بثقافته، وإلى الاستراتيجية الوطنية برؤيته ومهامه، ما يجعله بالفعل “الدرع الواقي للوطن” في كل الظروف والتحديات. وهكذا، فإن ما تحقق من تطوير نوعي في التكوين والتجهيز والجاهزية القتالية لم يكن معزولا عن السياق الإقليمي والدولي، بل جاء استجابة واعية لحجم التهديدات المحيطة، وكسلاح استراتيجي في وجه ما يشهده المحيط الجيوسياسي من تغيرات متسارعة. فالجيش الوطني الشعبي تبنى “وعيًا أمنيا استباقيا” يرتكز على قراءة دقيقة لمعادلات القوة والصراع في العالم.

 

وعي استراتيجي بالتحديات الأمنية

وفي عالم تتداخل فيه الأزمات وتتسارع فيه التحولات، أدركت القيادة العليا للجيش أن “الأمن الوطني لم يعد حكرا على المعركة التقليدية”، وبات مفهوما واسعا يشمل الأمن الطاقوي، الغذائي، الرقمي، وحتى البيئي. ومن هذا المنطلق، تحرص الجزائر على بناء منظومة دفاع شاملة لا تقتصر على الجبهة العسكرية، وإنما تمتد لتشمل تحصين الدولة والمجتمع في مواجهة كافة أشكال التهديد. وقد أظهر الجيش الوطني الشعبي قدرة عالية على التكيف مع هذا الواقع الجديد، من خلال مراجعة دائمة لاستراتيجياته وتقييم محاوره الدفاعية، مع إعطاء أهمية قصوى لتأمين الحدود الطويلة للبلاد، والتي أصبحت بؤرا ساخنة بفعل الأزمات السياسية والأمنية في دول الجوار. في هذا السياق، تم تعزيز الانتشار الميداني للوحدات المتقدمة، ودعمها بالوسائل الجوية واللوجستية الحديثة، ما أسهم في تأمين التراب الوطني من أية اختراقات محتملة. كما تُعنى المؤسسة العسكرية بتحليل انعكاسات الصراعات الإقليمية والدولية على الداخل الوطني، حيث تبقى الجزائر متمسكة بموقفها “المبدئي الرافض للتدخل في شؤون الغير”، لكنها في الوقت نفسه تبقي أعينها مفتوحة على التطورات في الساحل الإفريقي، وليبيا، والبحر المتوسط، وكل المناطق التي قد تشكل تهديدا مباشرا أو غير مباشر على أمنها القومي.

 

وقد لعب الانسجام بين القيادة السياسية والعسكرية دورا حاسما في الحفاظ على هذا التوازن الاستراتيجي، إذ يعمل الجيش ضمن رؤية موحدة للدولة الجزائرية، ترفض سياسة المحاور والانحياز، وتفضل مقاربة “الحياد النشط” الذي يجمع بين الاستقلالية والتأثير. فليست الجزائر دولة منعزلة، كما أنها ليست أداة في يد قوى أجنبية، وإنما هي فاعل سيادي يمتلك قراره وإرادته.

 

هذا الوعي الاستراتيجي المتقدم، هو ما يجعل الجيش الوطني الشعبي في موقع “الحامي الحذر”، الذي لا يكتفي برد الفعل، بل يستبق التهديد، ويحصّن الدولة من الداخل والخارج، ضمن معادلة دقيقة تجمع بين القوة والعقل، وبين الالتزام السيادي والانفتاح الذكي على محيط متقلب لا يعترف إلا بالمصالح والمواقف الواضحة.

 

وفي ظل هذا الإدراك العميق لمعادلات الأمن الشامل والتحديات الجيوسياسية المحيطة، اتجه الجيش الوطني الشعبي نحو أدوار تنموية واستراتيجية أوسع، تعكس وعيه بمكانته في قلب الدولة والمجتمع، وبضرورة أن يكون “شريكا فعليا في مشروع النهوض الوطني”، لا مجرد حارس لحدود البلاد.

 

من المهام الدفاعية إلى التنمية الوطنية

وعليه، برز في السنوات الأخيرة انخراط واضح ومتصاعد للمؤسسة العسكرية في دعم الاقتصاد الوطني، وفق رؤية استراتيجية مدروسة تهدف إلى “تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاعات الحساسة”، وتقليص التبعية للخارج، خصوصا في مجالات الغذاء، والدواء، والعتاد الصناعي. وقد كان هذا التوجه خيارا سياديا يعكس رغبة الدولة في استثمار قدرات الجيش لصالح التنمية المستدامة. ويُعدّ تطوير القاعدة الصناعية العسكرية من أبرز الأمثلة على هذا الانخراط، حيث تم إنشاء وحدات إنتاج حديثة تصنع آليات وتجهيزات تمثل إضافة حقيقية للقطاع الصناعي المدني، من حيث التكنولوجيا والتشغيل وحتى التصدير في بعض الحالات. وهكذا أصبح الجيش “قاطرة صناعية” تساهم في تحفيز النمو الوطني، دون منافسة غير عادلة للقطاع الخاص، وإنما في تكامل محسوب معه. كما ساهمت مشاريع الجيش في خلق مناصب شغل دائمة لفئة الشباب، من خلال المؤسسات التابعة له، ومن خلال التعاون مع المعاهد والجامعات الوطنية لتكوين الكفاءات في مجالات متقدمة، كالميكانيك، والإلكترونيك، والذكاء الاصطناعي. وهذا ما جعل من المؤسسة العسكرية “مدرسة للتنمية” بقدر ما هي مدرسة للانضباط والالتزام. وتأتي هذه الأدوار التنموية في انسجام تام مع العقيدة الدفاعية للجيش، إذ لا يمكن بناء أمن حقيقي في ظل اقتصاد هش أو تبعية خارجية. ومن هنا، فإن الإسهام في التنمية لا يُعدّ خروجا عن الوظيفة التقليدية للجيش، وإنما هو امتداد منطقي لرؤيته الاستراتيجية في “حماية الاستقرار الوطني من كل تهديد، أمنيا كان أم اقتصاديا”. وإذا كان الاحتفال باليوم الوطني للجيش مناسبة للاعتراف بتضحياته ومكانته، فإنه أيضا دعوة للتفكر في المستقبل، وفي طبيعة العلاقة المتطورة بين المؤسسة العسكرية والدولة، تلك العلاقة التي تقوم على “الثقة والتكامل والمسؤولية المشتركة”، وتؤكد أن الجيش الوطني الشعبي ليس فقط سيف الجزائر، بل عقلها وحارس مشروعها النهضوي.