إنجازات تعيد رسم خارطة الصحة في الجزائر وتفتح أبواب التصدير الدوائي

نهضة صحية.. وصناعة دواء قوية

نهضة صحية.. وصناعة دواء قوية
  • من قسنطينة.. مشاريع صحية تعكس رؤية دولة

  • صناعة دوائية تتوسع بأرقام غير مسبوقة

  • الصناعة الصيدلانية في الجزائر.. من الاكتفاء المحلي إلى الريادة الإفريقية

تميزت زيارة رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، إلى قسنطينة بإطلاق مشاريع صحية وصيدلانية كبرى شكّلت مدخلا لإبراز التحول العميق الذي تعرفه المنظومة الصحية في الجزائر، حيث كانت هذه الزيارة إشارة واضحة إلى دخول البلاد مرحلة جديدة تقوم على إنشاء أقطاب طبية متخصصة، وتوسيع القدرات الإنتاجية في الصناعة الدوائية، وتعزيز السيادة الصحية في ظل تراجع لافت لواردات الأدوية وارتفاع الإنتاج المحلي، بما يعكس إرادة سياسية لبناء منظومة حديثة وقوية تستجيب لمتطلبات المواطنين وتفتح آفاق التعاون الإقليمي والقاري.

جاءت زيارة رئيس الجمهورية إلى قسنطينة لتجسد رؤية شاملة تُعطي للقطاع الصحي بعدا استراتيجيا جديدا، خاصة مع وضع حجر الأساس لمستشفى جامعي بسعة 500 سرير، وهو مشروع يعكس توجها لبناء مؤسسات صحية مرجعية قادرة على استيعاب التخصصات الدقيقة وتوفير خدمات طبية متطورة داخل البلاد. وقد شدد الرئيس خلال الشروحات التقنية على أن المرحلة المقبلة تتطلب إنشاء أقطاب صحية حقيقية، ما يؤكد انتقال الدولة من منطق المرافق التقليدية إلى منطق التجمعات الطبية المتكاملة التي تُشكل قاعدة منظومة صحية عصرية. هذا التوجه يتماشى مع التحولات التي تشهدها ولايات عدة، حيث بات الاستثمار في المؤسسات الصحية الكبرى رهانا لتقريب الخدمات من المواطنين وتعويض سنوات طويلة ظلت فيها بعض التخصصات حكرا على ولايات محدودة. كما أن إطلاق مشروع مركب رياضي ضخم إلى جانب المرافق الصحية يعكس رؤية أخرى تقوم على الجمع بين الصحة والرياضة وجودة الحياة، بما ينسجم مع مفهوم الوقاية قبل العلاج الذي تعمل الحكومة على ترسيخه. وكان تركيز الرئيس على التخصصات الدقيقة جزءا من سياسة تهدف إلى كسر حلقة تحويل المرضى إلى الخارج، عبر تكوين أطباء متخصصين داخل الجامعات الجزائرية وتوفير المعدات الحديثة في المراكز الاستشفائية الجديدة. وهو توجه يعكس إدراكا رسميا بأن بناء منظومة صحية قوية يبدأ من تكوين الكفاءات البشرية قبل استيراد الأجهزة والمعدات. ويُضاف إلى ذلك البعد الرمزي للزيارة، إذ جاء استقبال الآلاف من المواطنين للرئيس في قلب مدينة قسنطينة ليعطي للحدث طابعا اجتماعيا يعكس حجم التطلعات المحلية نحو تحسين الخدمات الصحية. ومع متابعة رئيس الجمهورية لعرض حول عصرنة المدينة القديمة ورقمنة قطاع السكن، بدا واضحا أن المشروع الصحي الجديد ليس منفصلا عن رؤية شاملة تُعيد رسم ملامح التنمية في الولاية وربطها بباقي القطاعات.

 

صناعة دوائية تتوسع.. وأرقام تؤكد التحول

ويمثل تطور الصناعة الصيدلانية أحد أكثر المؤشرات وضوحًا على التحول الذي تعرفه المنظومة الصحية في الجزائر، وهو تحول مدعوم بإرادة سياسية صريحة لتنويع الإنتاج وتقليص التبعية للأسواق الخارجية. فحسب الأرقام الرسمية، أصبحت البلاد تضم 233 مؤسسة صيدلانية للتصنيع، منها 138 مؤسسة متخصصة في صناعة الأدوية، تغطي اليوم أكثر من 82 بالمائة من احتياجات السوق الوطنية. هذا الارتفاع اللافت في القدرة الإنتاجية هو نتيجة استراتيجية وضعتها الدولة في إطار برنامج رئيس الجمهورية لتعزيز الأمن الصحي والسيادة الدوائية. وقد انعكست هذه الديناميكية مباشرة على فاتورة الاستيراد، إذ تراجعت قيمة الأدوية المستوردة من 1.25 مليار دولار سنة 2022 إلى 515 مليون دولار فقط سنة 2024، مع توقع استمرار الانخفاض خلال سنة 2025 بفضل دخول مشاريع إنتاج جديدة حيز النشاط. ويُعد هذا التراجع من أبرز المؤشرات الاقتصادية على نجاح الاستراتيجية الوطنية، خاصة أن التخفيض تم دون التأثير على توافر الأدوية الأساسية، بل بزيادة الإنتاج المحلي لتغطية السوق بمنتجات مطابقة للمعايير. وتعكف الوزارة حاليا على دراسة 103 مشاريع استثمارية جديدة في القطاع، من بينها 72 مشروعا لإنتاج الأدوية و31 مشروعا للمستلزمات الطبية، ما يعكس توجها واضحا نحو توسيع القاعدة الصناعية وتشجيع المستثمرين على دخول مجالات ذات قيمة مضافة عالية. هذا التوسع يعزز كذلك فرص خلق مناصب عمل جديدة وتطوير سلاسل إنتاج متكاملة داخل البلاد، بما يمنح الصناعة الدوائية وزنًا اقتصاديًا متزايدًا. ولا يقتصر التطور على الجانب الكمي فحسب، بل يمتد إلى الجانب التنظيمي أيضا، حيث تعمل وزارة الصناعة الصيدلانية على تبسيط إجراءات تسجيل الأدوية ومراجعة النصوص التنظيمية لتسهيل الاستثمار. وهو ما يخلق بيئة أكثر شفافية وسلاسة تسمح للمؤسسات بالتركيز على الإنتاج والابتكار، وتدفع القطاع نحو مرحلة جديدة يكون فيها قادرا على دعم المنظومة الصحية بمنتجات محلية عالية الجودة، وتثبيت مكانة الجزائر كفاعل صيدلاني وازن في المنطقة.

 

من الاكتفاء المحلي إلى التصدير.. الجزائر لاعب صيدلاني في إفريقيا

ولم يعد الحديث عن الصناعة الدوائية في الجزائر مقتصرا على تلبية الاحتياجات الداخلية، بل تجاوز ذلك إلى طموح أكبر يتمثل في التحول إلى فاعل إقليمي في السوق الدوائية الإفريقية. فقد ساهم الارتفاع الكبير في الإنتاج المحلي وتنوع الأصناف المصنّعة في خلق فائض يفتح الباب أمام التصدير، خاصة بعد حصول الجزائر على “شهادة النضج 3” من منظمة الصحة العالمية، وهي خطوة محورية تمنح المنتجات الجزائرية أفضلية تنافسية كبيرة داخل القارة. ويُعد هذا التصنيف اعترافا دوليا بقدرة المنظومة التنظيمية على مواكبة المعايير العالمية، ما يسهم في تسهيل ولوج الأدوية الجزائرية إلى أسواق جديدة. وتزامن هذا التحول مع ارتفاع الطلب الإفريقي على الأدوية الجزائرية، خصوصا في ظل التحديات التي تواجهها العديد من الدول في تأمين العلاج بأسعار معقولة وبجودة مضمونة. وقد استفادت الجزائر من موقعها الجغرافي وقدراتها الإنتاجية لتلبية جزء من هذا الطلب، حيث بدأت مؤسسات محلية في تصدير أصناف صيدلانية إلى دول أفريقية وعربية وحتى أوروبية، وهو ما يعكس مدى تطور الصناعة الدوائية الجزائرية واعتراف الأسواق الخارجية بقدرتها التنافسية. ولا يقتصر الحضور الجزائري على الأدوية الجنيسة التقليدية، بل توسع ليشمل مجالات أكثر تخصصا مثل الأدوية البيولوجية المماثلة، والمستحضرات المعقمة القابلة للحقن، والأدوية المضادة للسرطان، وكلها منتجات تتطلب تكنولوجيا متقدمة وقيمة مضافة عالية. هذا التطور ينسجم مع توجه الدولة نحو دعم الصناعات الدوائية ذات الطابع الاستراتيجي، والانتقال من مرحلة الصناعات الأساسية إلى مرحلة الصناعات الدقيقة التي يحتاجها السوق الأفريقي بشدة. كما يعزز هذا المسار المشاركة الجزائرية المتزايدة في المبادرات القارية، على غرار المنتدى الإفريقي حول سلاسل الإمداد الصحية المنعقد بجيبوتي، حيث أكدت الجزائر استعدادها للعمل مع شركائها من أجل تقوية منظومة التزوّد القارية وتقليل التبعية الخارجية. ويكشف هذا الانخراط عن رؤية أوسع تتجاوز البعد الاقتصادي إلى بعد استراتيجي، يتمثل في دعم الاستقلالية الصحية للقارة، بما يرسّخ موقع الجزائر كقطب صيدلاني تنافسي قادر على لعب دور محوري في رسم ملامح السوق الدوائية الإفريقية في السنوات المقبلة.

 

شراكات دولية وتكنولوجيا متقدمة.. نحو سيادة صحية حقيقية

ويمضي القطاع الصيدلاني في الجزائر نحو مرحلة جديدة تتسم بالانفتاح المدروس على الشراكات الدولية، خاصة في المجالات ذات القيمة التكنولوجية العالية. فقد أصبح التعاون مع المخابر الأجنبية خيارا استراتيجيا لتطوير إنتاج الأدوية المبتكرة، وعلى رأسها أدوية السرطان والأنسولين. ويعكس خلق أربع وحدات لإنتاج الأنسولين – دخل بعضها فعليا مرحلة التسويق – قدرة الجزائر على الانتقال من الاستيراد إلى الإنتاج المحلي في واحد من أكثر القطاعات حساسية وأهمية للمريض الجزائري. هذا التحول يؤكد أن السيادة الصحية لا تُبنى فقط عبر المصانع، بل عبر امتلاك التكنولوجيا ومعايير التصنيع المعتمد عليها دوليا. وفي هذا السياق، تعزز اللقاءات الدبلوماسية الجانب العملي لهذا التوجه، على غرار استقبال وزير الصناعة الصيدلانية لسفير الأردن، حيث جرى بحث تطوير شراكات ثنائية في مجال صناعة الأدوية والمستلزمات الطبية. تمتلك الأردن خبرة واسعة في هذه الصناعات، ما يجعل التعاون معها فرصة لتعزيز تبادل المعرفة وتوسيع الاستثمار في إنتاج المواد الخام ومواد التغليف. وتشير هذه اللقاءات إلى رغبة الجزائر في تنويع شركائها واستثمار الخبرات الإقليمية من أجل بناء قاعدة صناعية محلية متينة. كما لا يقتصر تطوير القطاع على بُعد التعاون الخارجي فقط، بل يشمل أيضًا إصلاحات عميقة في البنية التنظيمية، وفي مقدمتها تبسيط إجراءات تسجيل الأدوية ومراجعة القوانين لتشجيع الاستثمار. وتسعى الوزارة إلى رقمنة المنظومة الدوائية بالكامل من خلال الاعتماد على المنصات الرقمية والمرصد الوطني لتتبع توفر المواد الصيدلانية في الوقت الحقيقي. هذا التطوير الرقمي يحدّ من الاختلالات، ويُسهم في مكافحة المضاربة وضمان توزيع عادل للأدوية على مستوى الولايات. ويتكامل هذا المسعى مع جهود “صيدال” لاستعادة مكانتها التقليدية في السوق، بعد إطلاق خطة لإعادة بعثها وضخ استثمارات جديدة في قدراتها الإنتاجية. فعودة “صيدال” لا تُعد فقط تعزيزا للقطاع العمومي، بل ضمانا لوجود قطب صناعي وطني قادر على قيادة المشاريع الاستراتيجية وتوفير منتجات أساسية ذات حساسية عالية. وهكذا، يتضح أن السيادة الصحية التي تسعى إليها الجزائر هي مسار متدرج يشمل التكنولوجيا والشراكات والإصلاح التنظيمي، ويُعيد رسم مستقبل الصناعة الدوائية على أسس أكثر قوة وفعالية.

 

تحديات قائمة.. وفرص تعزّز طموح التحول الصيدلاني

ورغم التطور اللافت الذي حققته الصناعة الدوائية في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، إلا أن الطريق نحو سيادة صحية كاملة ما يزال يتطلب معالجة مجموعة من التحديات الواقعية. فالمختصون يلفتون إلى أن قدرات الإنتاج الحالية، رغم اتساعها، تحتاج إلى مواكبة أكبر في مجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وهو ما يشكل اليوم أحد أهم مفاتيح الابتكار في الصناعات الصيدلانية المتقدمة. إن محدودية الاستثمار في البحث داخل بعض المؤسسات تجعل الصناعة تركز على الأدوية الجنيسة أكثر من تطوير تركيبات جديدة يمكن أن تمنح الجزائر موقعا منافسا في الأسواق العالمية والإفريقية على حد سواء. ويبرز أيضا تحدي الاعتماد على المواد الخام المستوردة، وهو ما يجعل العديد من المصانع الجزائرية مرتبطة بتقلبات السوق العالمية وسلاسل التوريد الدولية. ولتقليل هذا الارتباط، تؤكد السلطات على ضرورة تشجيع الاستثمار المحلي في إنتاج المدخلات -من مواد التغليف إلى المركبات الأولية- وهو مسار بدأت فيه بعض المؤسسات الناشئة التي تحاول إيجاد موطئ قدم داخل سلسلة القيمة. وتُعد هذه الخطوة جوهرية لرفع نسبة الإدماج الوطني وتعزيز قدرة المصانع على التحكم في تكاليف الإنتاج واستقلالية التزوّد. كما يتطلب تطوير القطاع تحسين البيئة الاستثمارية وإزالة العراقيل الإدارية التي ما تزال، رغم الإصلاحات الأخيرة، تؤثر على سرعة إنشاء المشاريع الجديدة ومواكبتها للمعايير العالمية. ويسعى القائمون على القطاع إلى معالجة هذه الإشكالات من خلال تبسيط الإجراءات، وتعزيز الشفافية، وتحسين آليات الرقابة، بما يخلق مناخا أكثر جاذبية للاستثمار الوطني والأجنبي على حد سواء. فكل خطوة نحو بيئة أعمال أكثر سلاسة تعني فرصا أكبر لتطوير التكنولوجيا ونقل الخبرات وبناء مصانع ذات قدرة تنافسية عالية. وفي مقابل هذه التحديات، تبدو الفرص المتاحة أمام الصناعة الدوائية الجزائرية كبيرة وواعدة، خصوصا في الأسواق الأفريقية التي تعرف طلبا متزايدا على الأدوية ذات الجودة والأسعار المناسبة. ومع حصول الجزائر على شهادة النضج 3، وتوسع مشاريعها الصناعية، ونمو شراكاتها مع دول القارة، تبدو البلاد مرشحة لتكون من أكبر اللاعبين في سوق دوائية إقليمية تتجه نحو التحرر من التبعية الخارجية. ومع استمرار هذا المسار، يمكن للجزائر أن تبني موقعا استراتيجيا لا يقتصر على تلبية احتياجاتها المحلية، بل يجعلها ركيزة أساسية في الأمن الصحي للقارة، وفاعلا اقتصاديا قادرا على خلق قيمة مضافة وتحقيق تكامل صناعي وتجاري طويل المدى.