إنَّ لله تعالَى أيَّاما فاضِلةً؛ وأوقاتا مُباركةً، إذِ الأزمنةُ تتفاضَلُ كما تتفاضَلُ الأمكنةُ والأفرَادُ والأحوَالُ، فقدْ أشارَ اللهُ تعالَى إلى تفَاضُلِ الأنبياءِ، وأنهُمْ ليسُوا سواءً، فقالَ في محكمِ البيَانِ: ” تلكَ الرُّسلُ فضَّلنا بعْضهُم على بعْضٍ، منهُم من كلَّم اللهُ، ورفَعَ بعضهُم درجَاتٍ” البقرة: 253، ومنَ الأشهُر الفاضِلةِ أشهرُ الحجِّ الثلاثَةُ: شوالٌ وذُو القَعدَة وذو الحِجَّة، فقال عزَّ من قائلٍ: “الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ” البقرة: 197، حيثُ يُشرَعُ فيها الإحرَامُ بشعيرَةِ الحجِّ العظيمةِ، فهنيئا لمَن كُتبَ منكُم هذه السَّنةَ في زُمرةِ المُلبِّينَ بتلبيةِ التَّوحيد: “لبَّيكَ اللَّهمَّ لبَّيكَ، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيْكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شريكَ لك” ونرجُو لكم حجًّا طيبًا مبرورًا، وسعيًا مباركا مشكورًا، وذنبًا معْفُوًّا عنه مغفُورًا، وتجارَةً رابحَةً لن تبُورَ، والعاقبةُ الحَسنةُ لمن تخَلَّف اسمُه هذا العامَ، فما أرادَهُ الله لعبدِه خيرٌ ممَّا أراده العبدُ لنفْسِه، “وَعسَى أن تكرهُوا شيئًا وهو خيرٌ لكُم، وعسَى أن تحِبُّوا شيئا وهوَ شرٌّ لكُم، واللهُ يعلَمُ وأنتُم لا تعلَمُون” البقرة: 216. أيها الصَّادقون: ها قدْ ودَّعنا شهرَ ذي القَعْدة الحَرامِ بالأمسِ القريبِ، واستقْبَلنا بعدَهُ شهرَ ذِي الحِجَّة الحرَامِ، وممَّا يميزُ شَهْرَنا هذا – أي ذَا الحجَّة- أن فيه أيامًا خصهَا الله تعالى بالفَضْل والمكَانة، وجعَلَ العبادةَ فيها مضاعفَةً أضعافًا كثيرةً، حيث أقسمَ الله عز وجَل بهنَّ في محكَم تبيانه إعلاءً لقدرهَا؛ ورفعًا لشأنها، وتنويها بفضلهَا، وحثًّا على اغتنامِ نفحاتها، والتماسًا لبركاتهَا، إنها أيَّامُ العشرِ الأَوَّلِ من شهرِ ذي الحجَّة، كما فسَّر بذلك ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهُما قولَه تعالى: “والفجرِ وليال عشر والشَّفع والوَتْر والليْل إذا يسْر هلْ في ذَلكَ قَسَمٌ لذي حجْر” الفجر: 1-5، ومما يؤيدُ هذا المعنى الجليلَ ما ورد عن سيدِ الأولينَ والآخِرينَ رسولِ اللهصلى الله عليه وسلم كما عندَ مُسْلم: ” ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام، يعْني أيامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟، قالَ: ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رَجُلٌ خرَجَ بنفْسه ومَاله، فلَمْ يَرْجعْ منْ ذَلكَ بشَيْء”. ومن عَظيمِ فضْلهَا، ورَفيع شَأْنهَا، أنَّ الخلَافَ حَاصلٌ بينَ أهْل العلْم في المُفَاضَلَة بينها وبينَ عشْر رَمَضَانَ الأَخير، ومَا أجمَلَ عبارةَ ابن القيِّم رحمَهُ الله في الجمْعِ بينَ الفضْلَين، والتوْفيق بينَ الحُسْنَيَيْن إذ يقُولُ: ” الصوَابُ أن ليَاليَ العَشْر الآخرِ منْ رمضَانَ أفضَلُ من ليالي عَشْر الحجَّة، وأيامَ عشْر الحجة أفضَلُ منْ أيام عَشْر رَمَضَانَ، لأَن عَشْرَ الحجة إنمَا فُضلَ ليَومَي النحْر وعَرَفَةَ، وعَشْرُ رمضَانَ إنما فُضلَ بلَيْلَة القَدْر، وفيه فَضْلُ بعْض الأَزْمنَة علَى بَعْض”. ومنْ ضمنْ أيام العَشْر الأَوَّلِ من ذي الحِجَّة الحَرَام يومُ عرفةَ العظيمُ، وما أَدْرَاكُم ما عَرَفَةُ، إنه أفضَلُ أيام السَّنَة، فهُوَ يومٌ يدنو الجَبارُ عز وجل فيه منَ الخلائق فيُبَاهي بهمُ الملائكةَ، ويَعتقُ فيه الرقَابَ منَ النار، فلمْ يُرَ الشيطَانُ أدحَرَ ولا أحقَرَ ولا أغيظَ قَطُّ، كمَا في هَذا اليَوْم، لكثْرَة رَحَمَات الله وأفْضَاله علَى الخَلْق، وقَد استحَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم صيامَهُ لغَيْر الحَاجِّ، محتسبًا مغْفرةَ ذُنُوب سَنَتَين: مَاضية وبَاقية، ولعَلَّ أكثَرَنا سيتَعَرضُ لنفحات هذا اليوم المُبَارك، فيصُومُه إيمانا واحتسابا، مبتغيًا الأجرَ من الله عز وَجل، مستشعرًا عظمةَ الخَالق تبَارَكَ وتعالى، فسَارعُوا إلى مغْفرَة من الله ورضْوان، وأكثرُوا من شِعَار التَّوْحيدِ في هَذَا اليَوْم الأَغَر : ” لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملْكُ ولهُ الحَمْدُ، وهُوَ علَى كُل شَيْء قَديرٌ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر