الرئيس تبون يُجدد تمسكه بعلاقات طيبة ومتوازنة مع القوى الكبرى

دم عدم الانحياز.. جزائر لا شرقية ولا غربية

دم عدم الانحياز.. جزائر لا شرقية ولا غربية

قدّم الرئيس عبد المجيد تبون خلال تصريحاته الأخيرة، رؤية واضحة المعالم للسياسة الخارجية الجزائرية، حين قال إن “الجزائر يسري فيها دم عدم الانحياز”، في تأكيد صريح على تمسّك الدولة بمبدأ ظلّ ركيزة دبلوماسيتها منذ الاستقلال.

هذا التصريح، جاء في سياق دولي محتقن بالصراعات والتجاذبات بين القوى الكبرى، حيث تسعى دول عديدة لجرّ الحلفاء إلى خنادق المحاور المتصارعة. وبين هذا وذاك، تبرز الجزائر بموقفها الثابت، محافظة على علاقات متوازنة مع الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة وروسيا والصين، رافضة الانخراط في لعبة الاصطفاف، ومتمسكة باستقلالية قرارها، وبدورها كوسيط نزيه في قضايا العالم العادلة. منذ اللحظة التي رفعت فيها الجزائر راية الاستقلال سنة 1962، اختارت أن ترسم لنفسها طريقا خاصا في السياسة الدولية، بعيدا عن الاستقطاب الثنائي الذي كان يحكم العالم آنذاك. فقد كانت عضويتها في حركة عدم الانحياز، منذ تأسيسها، انعكاسا لقرار سيادي واع، نابع من تجربة ثورية عميقة، وآلام استعمار طويل. هذا الخيار كان “توجّه استراتيجي متجذّر في وجدان الدولة الجزائرية”، كما وصفه العديد من الدبلوماسيين، يتجاوز مجرد الحياد إلى تبني موقف أخلاقي وإنساني داعم لقضايا التحرر والسيادة. ولعل أبرز ما يميّز هذا الموقف هو استمراريته. فحتى بعد انهيار المعسكر الشرقي، وبروز الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، لم تتخل الجزائر عن تموضعها المتزن. بل ظلت تؤكد في كل محفل أنها “تسير بخطى مستقلة، لا تميل مع الرياح السياسية حيث تميل”، وتُذكّر العالم بأنّ مبدأ السيادة لا يُجزّأ، وأنّ من قاوم الاستعمار لا يمكن أن يفرّط في حرية قراره. وهنا يُفهم عمق عبارة الرئيس تبون حين قال إن “الجزائر يسري فيها دم عدم الانحياز”، وكأنه يشير إلى أن هذا المبدأ بات جزءا من الهوية السياسية للدولة. لقد ساعد هذا النهج في بناء صورة دولية متفردة للجزائر، كقوة دبلوماسية تعتمد على الاحترام المتبادل لا على التبعية، وعلى المبادرة لا على التلقّي. فبينما اختارت دول عديدة أن تضع كل بيضها في سلة واحدة، كانت الجزائر توازن بعناية بين علاقاتها مع الشرق والغرب، ما منحها حرية أكبر في التحرك على الساحة الدولية، و”مكنها من لعب أدوار وساطة نزيهة في قضايا شائكة”، من لبنان وفلسطين إلى مالي وليبيا. ولم يكن هذا التوازن دائما سهلا، بل كثيرا ما تعرّض لضغوط وتحفظات من بعض الأطراف الدولية. لكن الجزائر بقيت ثابتة على موقفها، مدركة أن الحياد المبدئي لا يعني العزلة، بل هو “منهج واعٍ يحمي السيادة ويعزز من فاعلية الموقف”، خاصة في منطقة كالمنطقة المغاربية والساحل، التي غالبا ما تتحوّل إلى مسرح لصراعات النفوذ بين القوى الكبرى. إن الجزائر، وهي ترفع اليوم شعار “الاستقلال في القرار”، لا تفعل ذلك من باب الشعارات الفارغة، بل من خلال سياسة خارجية تترجم هذا التوجه إلى مواقف عملية. وتأتي تصريحات الرئيس تبون الأخيرة بمثابة “تجديد لعهد الدبلوماسية الجزائرية مع مبادئها”، وإشارة إلى أن ما تم اختياره غداة الاستقلال لا يزال حيّا، نابضا، ومُلزما في سياق دولي لا يعرف الثبات.

 

علاقات متوازنة مع القوى الكبرى… بين “الندية” و”البراغماتية السيادية”

وفي الوقت الذي تشهد فيه الساحة الدولية استقطابا حادا بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والمعسكر الشرقي الذي تقوده روسيا والصين، استطاعت الجزائر أن تحافظ على علاقات مستقرة ومفتوحة مع جميع الأطراف، دون أن تقع في فخ الانحياز أو التبعية. هذا ما عبّر عنه الرئيس تبون بقوله: “كل الناس تتساءل عن السر الذي يجعل الجزائر تحافظ على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك مع روسيا والصين”، في إشارة إلى نجاح دبلوماسية الجزائر في “الوقوف على مسافة واحدة من الجميع”، دون أن تخسر ثقة أي طرف. هذا التوازن هو “خيار سياسي محسوب”، ينبع من رؤية تعتبر أن التعددية في العلاقات الدولية تُشكّل درعا واقعيا لحماية القرار السيادي. فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي تحتفظ فيه الجزائر بشراكة أمنية وتكنولوجية مع الولايات المتحدة، فإنها في المقابل تطوّر تعاونا عسكريا واستراتيجيا متينا مع روسيا، وتفتح المجال أمام استثمارات صينية ضخمة في البنى التحتية والطاقة. هذه المعادلة تعكس ما يُمكن تسميته بـ”البراغماتية السيادية”، أي توظيف المصالح مع القوى الكبرى دون الارتهان لأي منها. وإذا كانت بعض الدول تختار الاصطفاف في تحالفات تخضعها لاعتبارات خارجية، فإن الجزائر اختارت أن تتعامل بمنطق “الندية”، حيث تُحدّد أولوياتها بنفسها، وتُفاوض من موقع الشريك لا التابع. وقد برز هذا التوجه بشكل أوضح في ملفات حساسة مثل الطاقة، الأمن الإقليمي، وحتى في المواقف من النزاعات الدولية، إذ امتنعت الجزائر عن الانخراط في الإدانات المسيسة أو العقوبات الأحادية، وفضلت دائما الدعوة إلى الحوار والشرعية الدولية، ما منحها “صورة دبلوماسية متزنة تحظى بالاحترام حتى من القوى المتنافسة”. هذا الخط السياسي لا يخلو من التحديات، خاصة في ظل الضغوط المتزايدة على الدول النامية للاصطفاف ضمن محاور سياسية واقتصادية وأمنية. إلا أن الجزائر تمضي في طريقها بثبات، مستفيدة من رصيد تاريخي “يُحسب له ألف حساب”، ومن مواقف سابقة جعلتها طرفا موثوقا في النزاعات، وشريكا جادا في التعاون متعدد الأطراف. وهنا تتجلى قوة “التموقع الجزائري” كدولة تمتلك استقلالية في القرار، وتوازنا في العلاقات، وشبكة تحالفات تقوم على المصالح لا على الإملاءات. ولعلّ ما يجعل هذه المقاربة ناجحة هو انسجامها مع طبيعة النظام الدولي الجديد، الذي يتجه تدريجيا نحو تعددية الأقطاب. فبينما تتراجع فكرة الهيمنة الأحادية، تزداد الحاجة إلى دول تلعب دور “الجسر” بين التكتلات، وليس مجرد تابع لهذا أو ذاك. وفي هذا السياق، تُقدّم الجزائر نموذجا قابلا للتطوير، يجمع بين “الواقعية السياسية” و”الوفاء للمبادئ”، في معادلة قلّ نظيرها في محيطها الإقليمي وحتى بين دول الجنوب العالمي.

 

رافعة للدبلوماسية الجزائرية في إفريقيا والساحل

يمتد أثر مبدأ عدم الانحياز الجزائري من العلاقات مع القوى الكبرى إلى الحضور النشط في القارة الإفريقية، حيث تلعب الجزائر دورا محوريا في قضايا الأمن والتنمية، مستفيدة من مصداقيتها التاريخية ومواقفها المتزنة. في منطقة الساحل التي تعجّ بالتدخلات الأجنبية والتجاذبات الجيوسياسية، تبرز الجزائر كقوة إقليمية “ترفض التبعية وترفض أن تكون أداة في يد أي محور”، مُصرة على أن الحلول الحقيقية يجب أن تكون “إفريقية المنشأ، وسيادية التنفيذ”. لقد مكّن هذا التوجه الجزائر من الاحتفاظ بدورها القيادي في الملف المالي، سواء من خلال “اتفاق الجزائر” الموقّع في 2015، أو من خلال تحركاتها الدائمة لتهدئة التوترات بين الجماعات المتصارعة هناك. وبدلا من إرسال جيوش أو دعم أجندات خارجية، اعتمدت الجزائر على أدوات الدبلوماسية والوساطة، متسلحة بـ”رصيد من الثقة لا تملكه القوى المتدخلة”، وهو ما جعلها قادرة على التواصل مع كل الأطراف، بما فيها تلك التي لا تثق في القوى الغربية. وفي الوقت الذي تحوّلت فيه دول عديدة إلى قواعد عسكرية لصراعات الآخرين، ظلت الجزائر ثابتة على موقفها الرافض لتواجد القواعد الأجنبية على أراضيها أو في جوارها القريب. هذا الموقف “عقيدة استراتيجية”، تُدرك أن الأمن لا يُستورد، بل يُبنى من الداخل، بالتعاون مع الجيران، وبإعادة الاعتبار للحلول السياسية والاقتصادية بدل المقاربات العسكرية الصلبة. لذلك، حين تُصر الجزائر على أن “أمن الساحل هو امتداد لأمنها القومي”، فهي لا تفعل ذلك من باب التوسع، وإنما من منطلق المسؤولية والوعي الجيوسياسي. كما أن هذا النهج جعل الجزائر أكثر قدرة على التحرك خارج ضغوط “المحاور الدولية”، وأتاح لها حرية المبادرة في ملفات أخرى مثل ليبيا والنيجر وتشاد، دون أن تُتهم بالانحياز. بل على العكس، أصبحت الجزائر تُوصف في المحافل الإفريقية بأنها “صوت العقل”، وأنها “الطرف الذي يمكن الوثوق به دون خوف من الأجندات الخفية”. وقد ساهم هذا في تعزيز صورتها كفاعل مستقل وقوي في العمق الإفريقي. إن التمسك بمبدأ عدم الانحياز لم يجعل الجزائر دولة هامشية في القارة، بل على العكس، منحها هامشا واسعا من التحرك و”قدرة على المبادرة السياسية خارج قيود الإملاءات”، وهو ما يُفسّر ازدياد الرغبة من أطراف عديدة في إشراك الجزائر في تسوية النزاعات، سواء كانت بين الدول أو داخلها. ومع تصاعد الاضطرابات في الساحل، فإن الجزائر تجد نفسها أمام فرصة استراتيجية لإعادة تشكيل دورها الإقليمي، ليس من موقع القوة العسكرية، وإنما من موقع “الشرعية التاريخية، والموقف السيادي المستقل”.

 

دعم القضايا العادلة.. البوصلة الأخلاقية للدبلوماسية الجزائرية

وفي ظل التحولات المتسارعة على الساحة الدولية، حيث تميل العديد من الدول إلى تغليب المصالح على المبادئ، لا تزال الجزائر متمسكة بخطّ أخلاقي ثابت، تُعبّر عنه من خلال دفاعها المستمر عن القضايا العادلة في العالم. هذا التوجه هو “بوصلة أخلاقية تحكم القرار السياسي الخارجي”، وتُعطي للجزائر بعدا إنسانيا تتجاوز به حسابات الربح والخسارة. وقد أكدت التصريحات الأخيرة للرئيس تبون على هذا الثبات، حين ربط مبدأ عدم الانحياز بدعم القضايا العادلة، في رسالة مفادها أن “الحياد لا يعني الصمت أمام الظلم”، بل هو انحياز للشرعية لا للولاءات. تتجلى هذه المقاربة بوضوح في الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية، التي اعتبرتها الجزائر دائمًا “قضية مركزية غير قابلة للمساومة”، ورفضت كل أشكال التطبيع التي تتجاوز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. فبينما اختارت بعض الدول العربية التخلي عن هذا الملف لصالح اتفاقات سياسية واقتصادية مع الكيان الصهيوني، ظلت الجزائر على عهدها، معتبرة أن “دعم فلسطين هو جزء من هوية الدولة الجزائرية”، وأنه لا يمكن القفز على القرارات الدولية أو طمس معاناة شعب تحت الاحتلال. ولا ينحصر هذا الموقف في فلسطين فقط، بل يمتد إلى قضايا أخرى مثل الصحراء الغربية، حيث ترفض الجزائر منطق الاحتلال وتدافع عن “حق الشعوب في تقرير مصيرها”، انسجاما مع مرجعيات القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. ولعل ما يميز الموقف الجزائري في هذا الملف هو “ثباته رغم الضغوط”، حيث تُفضّل الجزائر خسارة مواقف ظرفية على أن تتخلى عن مبادئها في دعم التحرر الوطني. وهذا ما يمنحها مصداقية خاصة، ويجعل من صوتها أكثر تأثيرا في المحافل الدولية، خصوصا داخل الاتحاد الإفريقي وحركة عدم الانحياز. كما تُوظّف الجزائر هذا المبدأ في علاقاتها مع الشعوب المستضعفة، من خلال دعمها لقضايا دول الجنوب، ومناصرتها للعدالة المناخية، ومواقفها الواضحة ضد العقوبات الاقتصادية الأحادية التي تُفرض على دول مثل سوريا وكوبا. هذا الخط السياسي ينبع من قناعة عميقة بأن “الشرعية الدولية لا تُنتجها القوة، بل العدالة”، وأن “المجتمع الدولي لا يجب أن يُدار بمنطق الغالب والمغلوب، بل بمنطق التوازن والاحترام المتبادل”. وفي ظل هذا السياق، يصبح من الواضح أن مبدأ عدم الانحياز في الحالة الجزائرية ليس حيادا سلبيا، بل “موقفا نزيها يُترجم إلى مواقف واضحة وانحياز صريح للحق”. وهذا ما يجعل من الجزائر دولة ذات صوت أخلاقي في عالم يُعاني من اختلالات قيمية، حيث تُصبح المواقف أحيانا سلعة، والمبادئ أوراق تفاوض. أما الجزائر، فاختارت أن تكون صوت الشعوب، لا صدىً للمصالح، وأن تبني سياستها الخارجية على “توازن دقيق بين المبادئ والمصالح، دون خيانة لأيّ منهما”.

 

الاستقلالية في القرار.. العمود الفقري للسياسة الخارجية الجزائرية

وفي عالم تحكمه الحسابات المعقدة للمصالح والتحالفات، تبرز الجزائر كدولة “تُمسك بخيوط قرارها السيادي دون ارتجاف”، معتمدة على رصيدها التاريخي وتجربتها الثورية في رفض الوصاية. ويُعد مبدأ الاستقلالية في القرار السياسي أحد أبرز الأعمدة التي يستند إليها خيار عدم الانحياز، حيث تعتبر الجزائر أن “السيادة الوطنية لا تقبل التجزئة، لا في الداخل ولا في الخارج”. من هذا المنطلق، لا تخضع الجزائر لإملاءات، ولا تُغيّر مواقفها تحت الضغط، وهو ما يمنحها هامشا واسعا في تحديد أولوياتها والتحرك على الساحة الدولية بشخصية مستقلة. ويكمن جوهر هذه الاستقلالية في التوازن الدقيق بين الداخل والخارج. فالجزائر لا تتعامل مع العلاقات الدولية بمنطق الانبهار أو التبعية، وإنما بمنطق “الندية والاحترام المتبادل”، سواء كانت في مواجهة ضغوط اقتصادية من قوى كبرى أو أمام مغريات التعاون المشروط. ولعل رفض الجزائر في عدة مناسبات للجوء إلى التمويلات الأجنبية المشروطة، أو توقيع اتفاقيات مجحفة، يُعَدّ “رسالة صريحة بأن قرارها الوطني ليس للبيع”، وأن السياسة الخارجية ليست أداة للمقايضة على الثوابت. وتتجلى هذه الاستقلالية أيضا في المواقف الحازمة تجاه التدخلات الأجنبية، إذ ترفض الجزائر بشكل مبدئي أي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للدول، وتُعارض السياسات التي تسعى إلى تغيير الأنظمة بالقوة أو فرض نماذج جاهزة من الخارج. هذا الموقف ينطلق من قناعة بأن “الاستقرار الحقيقي ينبع من الداخل”، وأن الحلول المفروضة لا تُنتج إلا هشاشة سياسية وتبعية اقتصادية. لذلك، حين تُصر الجزائر على أن “القرار السياسي الوطني خط أحمر”، فهي بذلك ترسم حدودا واضحة لا تسمح بتجاوزها. كما أن هذه العقيدة في الاستقلالية، تجعل من الجزائر شريكا موثوقا لا يُغير مواقفه تبعا للرياح الدولية. فهي لا تقفز من محور إلى آخر، ولا تُبدّل تحالفاتها على وقع الضغوط الإعلامية أو التهديدات الاقتصادية. وإنما تسعى دائما إلى بناء شراكات متوازنة تقوم على “المصالح المتبادلة لا الإملاءات الأحادية”، وهو ما يُفسّر قدرتها على الحفاظ على علاقات جيدة مع قوى متناقضة دون التورط في صراعاتها، من واشنطن إلى موسكو، ومن بكين إلى بروكسل. إن ما يميز الجزائر في هذا الجانب هو أن استقلاليتها ليست فقط في الخطاب السياسي، بل في الممارسة الواقعية أيضا. فقد رفضت الجزائر في عدة محطات تاريخية الانخراط في تحالفات لا تخدم مصالحها، وفضّلت أن “تدفع ثمن موقفها بدل أن تفقد كرامتها السياسية”. وهذه الاستقلالية، التي كثيرا ما تُزعج بعض القوى الكبرى، هي في الواقع ما يمنح الجزائر مصداقية استثنائية، ويجعلها طرفا يُحسب له حساب خاص في كل معادلة سياسية أو أمنية على الصعيدين الإقليمي والدولي.

 

الجزائر في عالم متعدد الأقطاب.. التموقع الذكي خارج خنادق الصراع

وبينما يشهد العالم تحولا نحو التعددية القطبية، مع تصاعد أدوار قوى مثل الصين وروسيا وتراجع الهيمنة الغربية المطلقة، تجد الجزائر نفسها أمام بيئة دولية جديدة تتطلب “مرونة استراتيجية وتموقعا ذكيا”، دون التخلي عن مبادئها. فبعد عقود من الاصطفاف العالمي الصارم خلال الحرب الباردة، باتت الساحة الدولية أكثر تشظيا، وهو ما يُتيح لهامش أكبر من الاستقلال في الخيارات، ولكن أيضا يفرض تحديات أعقد على الدول التي ترفض التورط في محاور النفوذ المتصارعة. وهنا تحديدا، تبرز الجزائر كنموذج لدولة “تُدير علاقاتها الخارجية بميزان حساس”، يوازن بين الثوابت التاريخية والمصالح المستجدة. لقد مكّن هذا التحول الجزائر من تعزيز حضورها الدبلوماسي في ساحات متباينة، دون أن يُحسب عليها أنها في “المعسكر الشرقي” أو “الغربي”. فهي تفتح أبوابها أمام الاستثمارات الصينية في البنية التحتية، وتُوقّع اتفاقيات تعاون عسكري مع روسيا، وفي الوقت ذاته، تستقبل مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى وتُجري معهم حوارات استراتيجية. هذا ما يمكن تسميته بـ”التموقع خارج خنادق الصراع”، وهو خيار لا يُجيده سوى من يمتلك ثقة داخلية ونضجا دبلوماسيا عميقا. فـ”أن تكون صديقا للجميع دون أن تكون تابعا لأحد”، معادلة صعبة، لكن الجزائر تُجيدها. وتُدرك الجزائر أن العالم الجديد لا يتحمّل الاصطفافات العقائدية القديمة، بل يفتح المجال أمام الشراكات المرنة والمتوازنة. لذلك، لا تُبني علاقاتها الخارجية اليوم فقط على المبادئ، وإنما أيضا على “الجدوى الاقتصادية والتكامل الاستراتيجي”. ففي ملف الطاقة مثلا، تعمل الجزائر على تعزيز مكانتها كمورّد موثوق لأوروبا، وفي الوقت ذاته، تُوقّع عقودا بعيدة المدى مع شركاء آسيويين. وفي مجال الدفاع، تُنوّع مصادر تسليحها، وفي المجال التكنولوجي، تسعى لولوج شراكات مع قوى مختلفة. هذه المقاربة تُظهر بوضوح أن الجزائر “لم تعد تكتفي بردّ الفعل، بل تبني موقعها بخطى محسوبة”. إن قدرة الجزائر على التموقع بذكاء في عالم متحرك، مع المحافظة على ثوابتها في عدم الانحياز، تمثل رصيدا استراتيجيا ثمينا في هذا الظرف الدولي الدقيق. فهي تسعى لأن تكون “رقمًا فاعلا في معادلات الحل، لا هامشا في معادلات الصراع”. ومن هذا المنطلق، تُبرهن التجربة الجزائرية أن “الانحياز إلى الاستقلال لا يعني العزلة”، بل هو مدخل لسياسة خارجية فعّالة، متوازنة، ومُؤثرة، في عالم لم يعد فيه الولاء هو العملة السياسية الوحيدة. في عالم تتنازعه المحاور وتتشظى فيه الولاءات، تثبت الجزائر من جديد أنها قادرة على شق طريقها بثبات، مستندة إلى إرثها التحرري ومبدئها الراسخ في عدم الانحياز، كتموقع سيادي واعٍ يجعل منها “صوتا حرا في زمن الاصطفاف”، و”رقما فاعلا لا تابعا” في معادلات السياسة الدولية. فبفضل هذا الخيار الاستراتيجي، حافظت الجزائر على استقلالية قرارها، وبنت علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، ودافعت عن القضايا العادلة بإرادة لا تُشترى، مؤكدة أن السيادة مسارا وليس شعارا، وأن الدبلوماسية جسور تصنعها العقول الحرة.

م. ع