إِنَّ دِينَنَا الْعَظِيمَ جَاءَ لِيَصْنَعَ إِنْسَانًا صَالِحًا فَعَّالًا، يَدُهُ مَمْدُودَةٌ بِالْخَيْرِ، وَقَلْبُهُ يَنْبُضُ بِالرَّحْمَةِ. إِنَّ خَيْرِيَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَرْهُونَةٌ بِوَظِيفَتِهَا. وَمَكَانَتُهَا عِنْدَ اللَّهِ مُرْتَبِطَةٌ بِمِقْدَارِ مَا تُقَدِّمُهُ مِنْ نَفْعٍ لِعِبَادِ اللَّهِ؛ فَكَيْفَ نُحَوِّلُ تَدَيُّنَنَا مِنْ مُّمَارَسَةٍ فَرْدِيَّةٍ خَاصَّةٍ، إِلَى طَاقَةٍ إِصْلَاحِيَّةٍ عَامَّةٍ؟ هَذَا مَا سَنَعِيشُ مَعَهُ فِي رِحَابِ قَوْلِ الْحَبِيبِ ﷺ: “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ”. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْرِدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا..”. هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ لَيْسَ مُجَرَّدَ حَثٍّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، بَلْ هُوَ قَاعِدَةٌ تَأْسِيسِيَّةٌ لِمَفْهُومِ التَّدَيُّنِ الْوَاسِعِ، تَجْعَلُ “الْخِدْمَةَ الْعَامَّةَ” مِعْيَارًا لِلتَّفَاضُلِ بَيْنَ الْبَشَرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَرَكِيزَةً لِلْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْانْفِصَالَ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحَيَاةِ. وَيُعْلِنُ أَنَّ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ يَمُرُّ أَيْضًا عَبْرَ بَوَّابَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. فَفِي فِقْهِنَا الْإِسْلَامِيِّ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، هُنَاكَ قَاعِدَةٌ ذَهَبِيَّةٌ صَرَّحَ بِهَا الْإِمَامُ الْقَارَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الذَّخِيرَةِ قَالَ: “وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ مَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ مُتَعَدِّيَةً، كَالْعُلُومِ وَالْجِهَادِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَكُلَّمَا عَظُمَتِ الْمَصْلَحَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ عَظُمَ الْأَجْرُ.” لِمَاذَا هُوَ أَفْضَلُ؟ لِأَنَّ الَّذِي يَخْدُمُ “عِبَادَ اللَّهِ” يَقُومُ بِتَكَالِيفِ الْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَيُحَقِّقُ مُرَادَ اللَّهِ فِي الْعِمَارَةِ وَالْإِصْلَاحِ، قَالَ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ” هُودٌ: 61. إِذْ إِنَّ الْعِبَادَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ طُقُوسًا وَحَسْبُ، وَلَا لِبَاسًا نَرْتَدِيهِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَنَخْلَعُهُ عِنْدَ بَابِهِ. الْعِبَادَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، مِحْرَابُهَا وَاسِعٌ فِي الْحَيَاةِ، يَتَجَاوَزُ الْمَفْهُومَ التَّقْلِيدِيَّ إِلَى مَجَالَاتٍ وَاسِعَةٍ مِنَ الْخِدْمَةِ الْعَامَّةِ ؛فَفِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ”، وَ رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ: تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ”. فَقَدْ عَلِمْتَ -أَخِي الْمُسْلِمُ-أَنَّ مَفْهُومَ الصَّدَقَةِ أَوْسَعُ مِمَّا يَفْهَمُهُ النَّاسُ فِي الْعُرْفِ الْاجْتِمَاعِيِّ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَكْتَبَ الْمُوَظَّفِ الَّذِي يُسَهِّلُ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، وَعِيَادَةَ الطَّبِيبِ الَّذِي يُخَفِّفُ الْآلَامَ، وَوَرْشَةَ الْعَامِلِ الْمَاهِرِ فِي صَنْعَتِهِ، هِيَ مَحَارِيبُ لِلْعِبَادَةِ، وَمَجَالَاتٌ وَاسِعَةٌ لِلصَّدَقَةِ، إِذَا أُتْقِنَتِ الْأَعْمَالُ وَاقْتَرَنَتْ بِهَا نِيَّةُ خِدْمَةِ الْخَلْقِ.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر