أنوار من جامع الجزائر

خطبة عيد الفطر – الجزء الأول –

خطبة عيد الفطر – الجزء الأول –

لقد مرّ بنا شهر رمضان بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه. فليحاسب كلّ واحد منّا نفسه: ماذا عمل فيه؟! وما مدى تأثيره في سلوكه وأخلاقه. فالمسلم حقّا هو من يحرص على كمال عبادته، ليزداد قربا من الله، ويحظى بمحبّته، ويفوز برضوانه. فحريّ بكلّ عاقل أن يفكّر في أمره، وينظر في حاله؛ ويتعرّف على علامات الربح والخسارة، بعد كلّ عمل. وأهمّها إتباع الحسنة بالحسنات، والاستقامة على سبيل الطاعات. فمن كانت حاله بعد رمضان أحسن منها قبله، فيظلّ مقبلا على الخير، تائبا منيبا مستقيما على الطاعة، فتلك أمارة قبول عمله، إن شاء الله تعالى. أمّا من كانت حاله بعد رمضان كحاله قبله أو أسوأ ممّا كان، فسَرعان ما ينكص على عقبيه، فيهجرُ الطّاعات، ويضيّعُ الصلوات؛ وتلك لعمري من علامات الحرمان والخسران.                    فإنّ السيّئات، إذا كثرت أهلكت الإنسان، ورجحت بحسناته في الميزان. ” وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ”. إنّ عيد الفطر تفضّل به علينا ربّ العالمين، فجعله يوم فرح بما تيسّر من الإخلاص في العبادة للصائمين. هو إيذان بأنّ الله قد رضي ما قاموا به من الطاعة، وأنّه يدّخر لهم ثوابها الجزيل يوم تقوم الساعة. فقد هيّأ المناسبة في عيدي الفطر والأضحى للاحتفال وأخذ الزينة، وإعلان مظاهر الفرح والابتهاج بالحياة، وجعل في ذلك تقرّبا إليه، ورتّب عليه ثوابا مدّخرا لديه، فأعطى النفس حظّها، والجسم حقّه، وسنّ في صبيحة العيد الصلاة المزكّية للنفس، المطهّرة للروح. وشرع من الدين ما يعطي الروح إشعاعها وصفاءها، ويعطي الجسم مطالبه ويلبّي حاجاته. فكان أفضل منهج وأهدى تشريع.  إنّ المسلمين في العيد يُقبلون على الراحة والتمتّع بالطيّبات، دون الغفلة عن واهب النعم، ومصدر الإحسان والكرم. لقد خطب الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، في يوم عيد الفطر فقال: “أتدرون ما مخرجكم هذا؟ صمتم ثلاثين يوما، وقمتم ثلاثين ليلة، ثم خرجتم تسألون ربّكم أن يتقبّل منكم”. ولا شكّ، يا عباد الله، أنّ من خرج يرجو ثواب عمله، يكون في خشوع وخضوع، وتواضع ووقار، حتّى لا يردَّ الله عليه عمله، ولا يحرمَه ثوابه. والمسلم، في مواسم الخير، يرجو من الله جزيل الثّواب. وعند الله الفضلُ والمزيدَ لأهلِ الإيمان. إنّ هذا العيد يأتي على مجتمعات المسلمين، وهي تتطلّع إلى الإصلاح المأمول، تتطلّع إلى الإقلاع الحضاري المنشود. وإنّما يتحقّق ذلك للأمّة المحمّدية، حين تعود إلى الله، وتؤدّي الرسالة الّتي استحقّت بها الخيريّة، تتحقّق أهداف الأمّة حين تتصالح مع الذّات؛ وتعمل لإيقاف التمزيق الفكري، والقضاء على الانهزام النفسي، ومقاومة الاستلاب والاغتراب الثقافي. فإذا استثمرت الأمّة في المعرفة، وأخذت بالعلم النافع، وتوجّهت إلى العمل الصالح، وإذا استطاعت أن توحّد جهودها، وتسخّر طاقاتها من أجل إقامة العدل، وإرساخ قيم المساواة، وتكافؤ الفرص في مجتمعاتها، فإنها لاشكّ واصلة إلى غاياتها، ومحقّقة لأهدافها. إذا بنت الأمّة نفسها على هذا النحو، فإنّها تنهض بشعوبها، وتحرّرها من ربقة المديونيّة، وذلّ التبعية الاقتصادية، وتخرجها من دائرة التخلّف، وتسير بها على طريق الحضارة والتقدّم؛ ومن ثمّ تهيّئ لها مقوّمات الاستقلال والسّيادة.

 

الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر