"الوقف" بين التجربتين الجزائرية والماليزية.. رؤية تنموية مشتركة

خبراء ومختصون من الجزائر وماليزيا يبحثون تحديات وآفاق تطوير الأوقاف في مائدة علمية مستديرة بدار القرآن

خبراء ومختصون من الجزائر وماليزيا يبحثون تحديات وآفاق تطوير الأوقاف في مائدة علمية مستديرة بدار القرآن

في خطوة تعكس الرغبة في تعزيز التعاون الأكاديمي والعلمي بين الجزائر وماليزيا، نظمت المدرسة الوطنية العليا للعلوم الإسلامية “دار القرآن” بالتعاون مع كلية الحقوق بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، مائدة مستديرة علمية لمناقشة واقع الوقف وآفاق تطويره في كلا البلدين.

وقد شهدت هذه الفعالية، مشاركة نخبة من الأساتذة والخبراء المتخصصين في مجالات الشريعة والقانون والاقتصاد، الذين قدموا مداخلات علمية قيمة تناولت الأبعاد الفقهية والقانونية والتنموية للوقف، مع التركيز على التحديات الراهنة والفرص المستقبلية لاستثماره كأداة اقتصادية واجتماعية فعالة. افتتحت المائدة العلمية بكلمة ألقاها الأستاذ محمد القاسمي الحسني، عميد جامع الجزائر، حيث رحب بالوفد الماليزي وأشاد بالتجربة الماليزية الرائدة في إدارة الوقف، مؤكدا أن الفكر الإصلاحي الإسلامي، وخاصة أفكار المفكر مالك بن نبي، كان له دور هام في تطوير الاقتصاد الإسلامي في ماليزيا. كما استعرض تجربة “صندوق التوفير للحج” الذي أنشئ عام 1972، والذي مكن الملايين من الماليزيين من أداء فريضة الحج عبر نظام ادخار واستثمار وقفي فعال. من جانبه، شدد الأستاذ عبد القادر بن عزوز، مدير “دار القرآن”، على أهمية الوقف كأداة لتعزيز التكافل الاجتماعي والتنمية المستدامة، موضحا أن هذه المائدة العلمية تأتي ضمن جهود الجامعة لتعزيز البحث الأكاديمي وتبادل التجارب بين الدول الإسلامية في مجال الأوقاف. خلال الجلسات العلمية، قدم الدكتور امحمد بوزيان، المدير العام للديوان الوطني للوقف والزكاة، عرضا مفصلا حول الإطار القانوني للوقف في الجزائر، مستعرضا الإصلاحات التي شهدها هذا القطاع منذ الاعتراف الرسمي بالأملاك الوقفية في دستور 1989. وأوضح أن الجزائر منحت الوقف شخصية اعتبارية مستقلة، ما يسمح له بلعب دور اقتصادي أكثر فعالية، لكنه أشار إلى أن القطاع لا يزال يواجه تحديات عديدة. أما الدكتور يوسف عزوزة، مدير الأوقاف بالديوان الوطني للأوقاف والزكاة، فقد ركز في مداخلته على العقبات التي تعيق استثمار الأوقاف في الجزائر، موضحا أن الاستثمار الوقفي ظل مقتصرا على الإيجار التقليدي رغم وجود أطر قانونية تسمح بتوسيع مجالاته. كما أشار إلى الإشكاليات المرتبطة باسترجاع الأملاك الوقفية التي انتقلت إدارتها إلى جهات حكومية أخرى، مؤكدا أن تبسيط الإجراءات الإدارية وتوفير بيئة قانونية واضحة يمكن أن يعززا من استثمار هذا القطاع. من الجانب الماليزي، استعرض الدكتور تاج أريس بستمان، أستاذ القانون في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، تطور النظام القانوني للأوقاف في بلاده، مشيرا إلى التحديات التي واجهتها ماليزيا في التوفيق بين القوانين الاستعمارية والأحكام الشرعية. وأوضح أن الحكومة الماليزية تدخلت عام 1988 لإقرار قانون يمنع المحاكم المدنية من الفصل في النزاعات المتعلقة بالأوقاف، مما عزز دور المحاكم الشرعية في هذا المجال. أما الدكتورة نور آسيا محمد، أستاذة القانون في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، فقد ركزت على النظام الإداري للأوقاف في ماليزيا، موضحة أن البلاد تعتمد نموذجا لا مركزيا، حيث تتولى كل ولاية إدارة الأوقاف وفق قوانينها الخاصة، مع وجود إشراف فيدرالي عبر وزارة الشؤون الدينية. كما أكدت، أن ماليزيا شهدت توسعا في مفهوم الوقف، ليشمل “وقف النقد”، “وقف الأسهم”، و”الوقف التعليمي”، إضافة إلى مشاريع وقفية كبرى، مثل “جامعة البخاري” والفنادق الوقفية التي تساهم في تمويل مشاريع اجتماعية وصحية وتعليمية. وخلال المائدة المستديرة، استعرض الدكتور بدر الدين إبراهيم، المستشار الشرعي في بنك المعاملات الإسلامية، بعض المشاريع الوقفية الناجحة في ماليزيا، والتي يمكن أن تستفاد منها في الجزائر. ومن بين هذه المشاريع تجربة “مركز الوصلة القنوية”، الذي جمع ستة ملايين دينار ماليزي لدعم المحتاجين، إضافة إلى المشاريع الزراعية الوقفية التي تهدف إلى دعم الفلاحين والصيادين من خلال توفير معدات حديثة لحفظ الإنتاج. كما تحدث عن تجربة “العيادات الوقفية المتنقلة”، التي تقدم خدمات علاجية مجانية في المناطق الريفية، إضافة إلى مشاريع الإسكان الوقفي التي توفر مساكن للأسر الفقيرة بتمويل من البنوك الإسلامية. وأكد الدكتور بدر الدين أن هذه المشاريع لم تكن لتنجح لولا التخطيط الفعّال والتشريعات المرنة التي سمحت للقطاع الوقفي بالاندماج في عجلة التنمية الاقتصادية. واتفق المشاركون في المائدة المستديرة، على أن الوقف يمكن أن يكون أداة اقتصادية واجتماعية مؤثرة إذا ما تم تحديث القوانين وتبسيط الإجراءات الإدارية التي تعيق استثماره. وأكدوا على ضرورة تبني مقاربة جديدة تدمج بين البعد الشرعي والاقتصادي، على غرار النموذج الماليزي الذي نجح في استثمار الأوقاف في مشاريع سكنية، تعليمية، وصحية مستدامة. كما خلصت المناقشات، إلى عدة توصيات، من بينها تحديث التشريعات الجزائرية الخاصة بالوقف لتكون أكثر مرونة وتشجيعا للاستثمار، وتبسيط الإجراءات الإدارية وتقديم تسهيلات للراغبين في استثمار الوقف، إضافة إلى إطلاق شراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير مشاريع وقفية ناجحة، وتعزيز التعاون الأكاديمي بين الجامعات الجزائرية والماليزية في مجال الأوقاف، والاستفادة من التجربة الماليزية في تطوير نماذج استثمارية جديدة، مثل “الوقف النقدي” و”الوقف الإنتاجي”. في ختام المائدة المستديرة، أكد الأساتذة الماليزيون، أن الجزائر تمتلك إمكانيات هائلة في مجال الأوقاف، لكنها بحاجة إلى آليات حديثة لتنظيم واستثمار هذا المورد الحيوي. وشددوا على أن التعاون العلمي والقانوني المستمر بين الجزائر وماليزيا يمكن أن يساهم في تحقيق نقلة نوعية في استثمار الأوقاف، ما سيعود بالفائدة على المجتمع الجزائري ويساهم في تعزيز التكافل الاجتماعي والتنمية المستدامة.كما أثبتت هذه المائدة المستديرة، أن الوقف ليس مجرد مؤسسة دينية، بل هو أداة اقتصادية قوية يمكنها أن تلعب دوراً محورياً في تحقيق التنمية، إذا ما توفرت له التشريعات الملائمة والبيئة الاستثمارية المناسبة.

تغطية – محمد بوسلامة