عندما تحط أقدامك في مدينة عين الصفراء، وتزور قصورها وتشاهد منحوتاتها ونقوشها، تشعر أنك تقوم برحلة عبر الزمن وتسافر عبر عصور وعقود لتصل لفترة قبل الميلاد حيث وجد الإنسان الأول وعمل وعاش ودفن هناك ليترك آثارا شاهدة على وجوده.
تقع مدينة عين الصفراء في الجنوب الغربي، بالهضاب العليا، تتوسط السلسلتين الجبليتين جبل عيسى وجبل مكثر، مساحتها الشاسعة تمتد إلى الحدود المغربية المتاخمة لفرطاسة، مما زاد من عدد بلدياتها. اشتهرت مدينة عين الصفراء بمقاومتها الشرسة للاستعمار، وذلك بمقاومات غير منظمة أغلبها بجبال المنطقة كجبل مكثر، وبمقاومات منظمة كمقاومة الشيخ بوعمامة. تعتبر مدينة عين الصفراء من أهم مدن الهضاب العليا وذلك لتميزها بطابعها السياحي والتاريخي.
نقوش ومنحوتات تبين تاريخ الوجود البشري
يعود التواجد البشري بعين الصفراء وضواحيها على أقل تقدير، إلى العصر الحجري الحديث (نيوليتيك) أين كانت تستعمل الأدوات من الحجارة، واستعملت في النقوش الصخرية المتوفرة بكثرة في المنطقة، حيث توجد نقوش تمثل عموما حيوانات ذلك العصر وبعض الأشخاص، أما عن معانيها فنظن، على حسب الحالات، أن هذه الرسومات المنقوشة على الصخور من المفترض أن يكون لها دورا سحريا أو فنيا أو دينيا، ونذكر هنا أنه في هذا العصر كانت ميول لعبادة الحيوانات مثل الكباش، أما فيما يخص التأريخ، فيطرح مشكل كبير بسبب عدم العثور بمحاذاة هذه النقوش على بقايا بشرية، وحسب توزيع الطبقات الزمنية للنقوش وحسب مختلف التقنيات و النظريات للباحثين مكنت من تحديد إنجاز هذه النقوش بين 000 10 و 500 2 سنة قبل الميلاد، وتعتبر النقوش الصخرية شهادات ذات قيمة لا تقدر بثمن تركتها شعوب قديمة، تثبت نمط حياتهم وعاداتهم و عالم الحيوان الذي كان يحيط بهم، ويشير الباحث “هلوت” إلى أن أكبر قسم من هذه الأعمال أنجز قبل الحضارة السومرية و قبل أقدم الأهرامات المصرية، كما اعتبر نقوش عين الصفراء من بين أقدم المظاهر الفنية والطقوسية لإفريقيا، وأن الأطلس الصحراوي الذي يضم أكثر من 150 محطة، يعد أحد أكبر المتاحف المفتوحة على الهواء في العالم.
إضافة إلى النقوش، ثبت التواجد البشري بمختلف الأدوات التي وجدت منها كميات وفيرة في محطات ورشات لوادي عين الصفراء وقال في هذا الصدد الباحث (س.قزال) “عاش العديد من السكان في الصحراء الحالية لفترة غير مؤكدة الحدود، لكنها طويلة جدا، ومن المحتمل أنها تنحدر إلى العصر التاريخي وتصعد دون شك إلى الأعلى”، كما كتب لينيز عن منطقة عين الصفراء وهو باحث في ما قبل التاريخ: “إذا كانت “المنطقة” تبدو اليوم مقفرة، قاحلة… فلم يكن الحال في الأحقاب الماضية، فلقد كانت المياه تسيل في المجاري المجففة (اليوم) وكان غطاء نباتي زاخر ينمو في هذه السهول القاحلة. عاشت أقوام كثيرة في المكان الذي تمور (اليوم) فيه الرمال”.
عينات مذهلة من آثار ما قبل التاريخ
عثر الباحثون في عين الصفراء على العديد من بقايا مهارات الفنانين البدائيين كصوان منحوت، محكات، سكاكين، إبر، رؤوس سهام… وغيرها، كما تجدر الإشارة كذلك إلى أنه وجدت حقول معتبرة هناك، تعطي مذكرة الباحث د.لينيز، الذي أقام بعين الصفراء من 1896 إلى 1898 عينات مذهلة من آثار ما قبل التاريخ وجدت على امتداد الأودية وعلى الكثبان الرملية وكذا بجانبها بمحاذاة المدينة، علاوة على النقوش الصخرية وبقايا الأدوات التي تشكل أقدم علامات الوجود البشري في هذه المنطقة، نجد ما يقارب 15 محطة رسومات صخرية، ممثلة للبقريات، والعديد من المحطات لنقوش عربات تبين أن الناحية كانت في ذلك العهد منطقة عبور ذات حركة مرور قوية بين الجنوب والشمال وبين الشرق والغرب، إضافة إلى محطات تتواجد بها كتابات أبجدية.
“تومولوس” مقابر قدماء عين الصفراء
تشكل أقدم المقابر ما يقارب العشرين نصبا دائريا تقع على بعد كيلومترات من عين الصفراء، نذكر منها على وجه الخصوص: عين عرقوب المغار، على سفح جبل مكثر، وفي عين بن سرارة التي اكتشفها النقيب دوسيني بين 1902 و 1907، واكتشفت كذلك بقايا عظام بشرية في هذه المعالم، غير أن المعلومات الأولى الأكثر صحة حول تعمير ناحية عين الصفراء بدأت في الواقع مع الجثوات.
“التومولوس” مقابر أناس سكنوا هذه النواحي في تلك الفترة المتأخرة، تسمى في العرف الشعبي بـ “الكراكير”،”الرجم” أو “قبور الجهالة”.
“تومولوس” هي المقابر بعين الصفراء صنفها دوسيني إلى ثلاثة أنواع حسب نوع البناء، يوجد النوع الأول على شعاع 35 كم من عين الصفراء، خاصة بثنية الغزالة و شقة المويلح، غارة الضبع ووادي الصفراء، النوع الثاني بجبل مكثر، فوناسة و المحيصرات والثالث بعين بن دومة، عرقوب المغار وغارة الضبع.
ويبين تواجد هذه المقابر التي تعد بالعشرات حسب دوسيني أن عددا كبيرا من السكان عاشوا في ناحية عين الصفراء فجر التاريخ، وجدت في هذه “التومولوس” هياكل عظمية ومنقولات جنائزية، وكانت هذه المنقولات ترافق الموتى وهي التي سمحت بتأريخ هذه المقابر و تمثلت أساسا في خواتم و أطواق من حديد و من فضة و من نحاس، وفي سنة 1914، قبل الحرب العالمية الأولى، قدمت بعثة من الباحثين الألمان بقيادة الأستاذ فروبينيس لاستكشاف تومولوس جبال القصور، وقد كتب ل.غوتيي معلقا على نتائج البعثة التي نشرت سنة 1916 “هذه القبور التي لا تحصى تعود للفترة التاريخية أو الفترة ما بين التاريخ وقبله على الأكثر، ولا نعرف بعد منها أحدا يفترض أن يكون أكثر قدما من مسيبسا”. مسيبسا هذا هو ابن الملك النوميدي ماسينيسا وعم يوغورطا، حكم 30 سنة بين 148 إلى 118 قبل الميلاد. وهكذا، يمكن لنا القول إن في القرن الثاني قبل الميلاد كانت ناحية عين الصفراء مأهولة بالعديد من السكان. كان هؤلاء الأهالي شبه مستقرين، يسكنون الأكواخ و يربون الماشية خاصة منها الماعز والأبقار.
“جيتول”.. الدعم اللامتناهي للنوميديين
بينما كان يلقب أهل الشمال بالنوميديين، لُقب أهل هذه الناحية بالجيتول، وأثناء الحروب التي خاضها القرطاجيون و الرومان، دعم جيتول الجنوب هاميلكار القرطاجي بمقاتلين سنة 238 قبل الميلاد في طريقه من تونس إلى إسبانيا وعززوا بعد ذلك، وإلى غاية 207 قبل الميلاد، ابنه حنبعل الذي توجه إلى إيطاليا. من الملفت للنظر أن من 146 قبل الميلاد، تاريخ تدمير قرطاجة، إلى غاية 40 بعد الميلاد لم يمارس الملوك النوميديون الذين حكموا الشمال أية سلطة على الجنوب. – بلاد الجيتول-. في سنة 40، قتل الملك النوميدي “بطلمي” و اجتاح الرومان شمال إفريقيا فانتفظ السكان، بعد معارك في الشمال، طارد الرومان جيتول الجنوب الذين ذهبوا لمساعدة النوميديين. لأول وآخر مرة، في أواخر سنة 40 / بداية 41 قدم الرومان بالناحية بقيادة الجنرال سويتونيس بولينيس ومروا بغرب جبال القصور حتى وصلوا إلى وادي “غير”.
قصة الكاتبة الصحفية التي أسلمت وجرفها وادي عين الصفراء
إنها الكاتبة الصحفية والروائية إزابيل إبرهارت ولدت في سويسرا بجنيف في 17 فيفري من عام 1877 م من أم أرستقراطية تدعى” نطالي إبراهارت” وأب روسي الأصل يسمى” ألكسندر تروفيموكسي” ،عاشت إزابيل في وسط ثقافي روسي وألماني وفرنسي، ففي سنة 1897 م توفيت والدتها وكانت بداية تفرق عائلة “إبراهارت، حيث تركت أختها الكبيرة منزل العائلة بعد أن فرت مع ضابط كما أقدم أخوها ” فلادمير” على الإنتحار وبقيت إزابيل وحدها، وبعد فترة من الزمن تركت إزابيل هي الأخرى المنزل متجهة نحو الجزائر وصلت مدينة الوادي سنة 1899 م معتنقة الطريقة القادرية، بعدها إلتقت برجل يدعى ” سليمان أهني ” الذي أصبح شريك حياتها وفقا لتعاليم الشرع مستبدلة إسمها بإسم ”سي محمود”.
وفي 29 جانفي من سنة 1901م أقدم رجل من الطريقة التيجانية – يدعى عبد الله بن أحمد – فوجه نحوها ضربة بسيفه فأصابها في الذراع بإصابة بليغة نقلت على إثرها إلى مستشفى مدينة الوادي، حيث أقامت هناك مدة 40 يوما، وفي 18 جوان1901م حكمت محكمة قسنطينة على الجاني بالأشغال الشاقة رغم شفقة إزابيل ودفاعها عنه، بينما أقدم الحاكم الفرنسي على نفيها إلى فرنسا وبدعوى من ” فيكتور باريكاند” عادت إزابيل إلى الجزائر لتبدأ الكتابة الصحفية في جريدة الأخبار، بعد أن نصب زوجها أهني كموظف في مدينة تنس ثم لم تلبث إزابيل إلا أن تختار الرحلة نحو عاصمة الجنوب الوهراني ”عين الصفراء” وكانت تحب أن تلبس لباس الفارس العربي، متنقلة بين قرى الجنوب الغربي تجوب بفرسها الذي كانت تسميه ”سوف”- كافة أرجاء مناطق الجنوب الغربي الجزائري، حيث كتبت عن مدينة عين الصفراء إبان مقاومة البطل الشيخ بوعمامة ”إنها بلد الخوف، لايمر مدني في الطريق، صمت ثقيل، نشعر أن البلد في خطر” كما كتبت عدت مقالات عن مغرار، عين الصفراء، حجرات لمقيل، بني ونيف، ومدينة وجدة المغربية، لقد بقيت حياة الكاتبة الصحفية إزابيل يشوبها بعض الغموض بخلاف أسلافها، بحيث لم يجد المؤرخون من ضمن ماكتبت أية إشارة لعملها الحقيقي وعلاقتها بالسلطة الفرنسية، وفي يوم 06 أكتوبر من عام 1904 م وبينما كانت إزابيل قادمة من مدينة بني ونيف تجاه عين الصفراء أصيبت بحمى أقعدتها بمستشفى المدينة لمدة 15 يوما، وفي 21 أكتوبر من عام 1904 م إلتقت بزوجها “سليمان أهني” في منزلهما المستأجر وسط المدينة وكانت تلك الليلة مطيرة، حيث فاض الوادي الذي يقسم المدينة إلى قسمين واقتحم وسط المدينة وأسقط منزل إزابيل وزوجها وبعد يومين من البحث عن الجثث، عثر على جثتها من بين 27 جثة، كما تم العثور على المخطوطات والمقالات التي كانت تكتبها وجمعت في كتب بلغت أربعة مجلدات من بينها كتاب ”في ظلال الإسلام الدافئة”، دفنت إزابيل بمقبرة سيدي بوجمعة بمدينة عين الصفراء مع المسلمين وفقا لتعاليم الشرع وللإشارة أنه مازال قبرها يزار من قبل السياح الأجانب.
قصر مغرار .. حافظ الذاكرة الشعبية
يحتوي قصر مغرار على مادة توثيقية هامة تخص وصايا الشيخ بوعمامة ومخطوطاته التي تمثل مختلف مخلفاته في مجال علوم الدين ومعارف الفقه والتفسير، كما تؤرخ لمختلف المراحل التاريخية التي شهدتها المنطقة لتعطيل توغل ونفوذ المستعمر الفرنسي نحو الصحراء الكبرى.
ويحتوي قصر مغرار على جدران منقوشة بزخارف وفسيفساء من الفن المعماري الإسلامي القديم و بقايا أواني فخارية وعتاد بسيط استعمل في زراعة البساتين بالمنخفضات الوديانية للمنطقة، وتنتمي جميع تلك الكنوز الأثرية إلى محيط حصن دفاعي شيده قائد المقاومة الشعبية بالجنوب الغربي للجزائر.
واستنادا إلى إفادات مسؤولي قطاع الثقافة، فإنّه يُرتقب الشروع في أشغال جرد ومسح ضمن مخطط لإحصاء كنوز الذاكرة، بعدما عُثر على دلائل جغرافية وطبيعية لبقايا متحجرة ونقوش صخرية وردت في كتابات العلامة إبن خلدون في بيئة تتوسطها خمسة قصور قديمة عبر من خلالها الإنسان البدائي عن كينونته منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد بحسب مؤرخين.
قلعة الشيخ بوعمامة رمز المقاومة الشعبية في المنطقة
يمثل قصر مغرار وقلعة الشيخ بوعمامة المنتصبان بعين الصفراء، ذاكرة المقاومة الشعبية ، ولهذا تمّ تحويل هذين الموقعين المتجاورين إلى متحف أثري وفضاء مفتوح للإستراحة و الإستكشاف بجانب دار للضيافة حتى يتسنى إستقطاب السياح وإتاحة الفرصة للزوار من أجل الغوص في تاريخ المنطقة والتعريف بالهندسة المعمارية القديمة والحرف التقليدية المميزة لنمط حياة السكان القدامى بقصور جبال الأطلس الصحراوي الغربي.
وتتميز هذه القلعة بنظامها الدفاعي وأبراجها الحربية المصممة للرصد والشامخة في وجه قساوة المناخ وتغيرات الطبيعة، وتتميز القلعة أيضا بطابعها الهندسي الهرمي المستوحى من الطراز المعماري المحلي، ما يجعلها تجذب إليها أنظار آلاف الزوار كل عام، وتتوفر القلعة على نحو 34 برجا للمراقبة وأطلال سور كبير وثلاثة مداخل رئيسية ومنارة لمسجد عتيق شيد بالمنطقة قبل ستة قرون خلت، إضافة إلى بقايا ورشة لصناعة أدوات حربية وذخيرة ومطمورات لتخزين المؤونة.
ويقول الخبير “زكي شتوح” أنّه جرى الاعتماد في بناء قلعة بوعمامة على مادة الجبس التقليدية نظرا لتوفرها في المنطقة، وهي أيضا تحفة معمارية في غاية من الدقة والجمال، ويلحظ الزائر للمكان قوة تماسك جزئيات القلعة خاصة في جدرانها الخارجية التي يبلغ عرض القطعة بها حوالي المترين.
وعلى الرغم من أهمية الإرث الحضاري والتاريخي للقلعة، إلاّ أنّ كثيرا من أسوارها ظلت معرضة للتلف ولم تستفد سوى من عمليات شكلية لم تتجاوز طلاء واجهاتها، تستوجب أشغال صيانة وتأهيل بعد أن أصبحت معرضة للانهيار في أي لحظة، في وقت يقول مسؤول مكتب الآثار وحفظ التراث بمديرية الثقافة التابعة للمنطقة، أنّ قلعة الشيخ بوعمامة المصنفة كتراث وطني محمي تتشكل من آثار ثمينة تم صيانة البعض منها وإسترجاع بعض ملامحها بعد أشغال التهيئة والترميم التي مرت بعدة فترات منذ سنة 1998 إلى غاية بداية العام الحالي.
واقع لا يسر ومؤهلات لم تُستغل
تحوّلت مدينة عين الصفراء، أحد أكبر التجمعات الحضرية بالجنوب الغربي من البلد، وأهم مناطق الاستقطاب السيّاحي سنوات الثمانينيات، إلى ما يشبه ”مدينة أشباح”، و لا يتوانى سكان عين الصفراء عن التنديد بسياسات التهميش والإقصاء التي صارت تنتهجها مختلف قيادات المجالس الشعبية المُتعاقبة، خصوصا خلال العشر سنوات الماضية، تُعد عين الصفراء إحدى أكبر دوائر ولاية النعامة مساحة وتعدادا سكّانيا، بإجمالي يتجاوز 52 ألف نسمة، وإمكانيات طبيعية هامة، مُتمثلة أساسا في تربعها على مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، وتوفرها على إمكانيات الري، إلا أن الزائر لا يلبث أن يكشف غياب أبسط وسائل العيش الكريم، وملاحظة حقيقة توسع الطابع الريفي الرعوي على حساب تراجع مظاهر الطابع الحضري.
لمياء بن دعاس