تغيير حكومي يوجّه البوصلة نحو الملفات الاقتصادية الثقيلة

حكومة سيفي.. امتحان الاقتصاد الكبير

حكومة سيفي.. امتحان الاقتصاد الكبير
  • ملفات الصناعة.. التجارة والطاقة في صلب أولويات الحكومة الجديدة

ترسيم الرئيس عبد المجيد تبون لسيفي غريب وزيرا أول بعد أن كان قبل أسابيع فقط “وزيرا أول بالنيابة” وقبلها وزيرا لأحد القطاعات الاقتصادية المهمة في البلاد وهو قطاع الصناعة، لا يمكن قراءته إلا كإشارة قوية بأن المرحلة المقبلة ستكون “امتحان الاقتصاد الكبير” بامتياز.

التغيير الحكومي الأخير لم يكن مجرد تعديل في الأسماء بقدر ما كان رسالة بأن الدولة عازمة على مواجهة التحديات العاجلة في قطاعات حيوية: من الصناعة التي تنتظر حلولا جذرية لأزمة السيارات، إلى التجارة الداخلية التي تتطلب ضبطا صارما للسوق ومحاربة المضاربة، مرورا بالتجارة الخارجية حيث ترفع الجزائر سقف طموحاتها في الصادرات خارج المحروقات، وصولا إلى رهانات الطاقة والمناجم والفلاحة والطاقات المتجددة. كل ذلك يجعل من حكومة سيفي غريب حكومة “الرهانات الاقتصادية الثقيلة”، حيث سيُقاس نجاحها أو فشلها بمدى قدرتها على تحويل التعليمات الرئاسية إلى واقع ملموس في حياة المواطن.

 

الصناعة.. بين ترقية القطاع وحل عقدة السيارات

يجد وزير الصناعة الجديد يحيى بشير نفسه أمام مهمة ثقيلة منذ أول يوم في الحكومة. التحدي الأول أمامه هو إعادة الاعتبار للصناعة الوطنية التي ما زالت تبحث عن مكانها في الاقتصاد، رغم الجهود السابقة لإطلاق مصانع التجميع وتشجيع الاستثمار الصناعي. تعيين بشير جاء برسالة واضحة: أن الصناعة تعد رهان استراتيجي يحدد ملامح المرحلة الاقتصادية القادمة. أزمة السيارات تمثل الامتحان الأصعب للوزير الجديد. فخلال السنوات الماضية، بقي السوق يعيش بين انكماش العرض وارتفاع الأسعار، رغم فتح باب استيراد المركبات سنة 2023 بقرابة 150 ألف سيارة. لكن البيروقراطية وتعطّل حصص الوكلاء أبقت المواطن في مواجهة أزمة حقيقية، حيث قفزت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. على بشير أن يجد المعادلة بين دعم التصنيع المحلي وضمان وفرة المركبات بأسعار معقولة، وهو ما سيشكّل أول معيار لقياس نجاحه. من جهة أخرى، ينتظر من الوزير أن يواكب مشاريع التصنيع الجارية مثل مصنع فيات بوهران، الذي يعد أبرز إنجاز في المرحلة الأخيرة، مع طموح لبلوغ إنتاج 90 ألف مركبة سنويا في 2026 وتحقيق إدماج محلي بنسبة 30%. المهمة هنا تتعلق بمرافقة هذا المصنع وتوسيع التجربة نحو شراكات جديدة مع علامات عالمية، وضمان أن تكون الاستثمارات مرتبطة بسلاسل قيمة حقيقية وليس مجرد “تركيب” مؤقت. كما أن الوزير مطالب بإعادة بعث السياسة الصناعية على أسس متينة: تحفيز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتكون شريكة في سلسلة الإنتاج، تطوير مناطق صناعية قادرة على استقطاب استثمارات أجنبية، وربط الصناعة بقطاعات أخرى مثل المناجم والطاقات المتجددة. وهنا تكمن مهمته الأصعب: التحول من إدارة أزمة آنية، مثل أزمة السيارات، إلى وضع استراتيجية شاملة تجعل الصناعة قاطرة فعلية للنمو الاقتصادي.

 

التجارة الداخلية.. ضبط السوق في مواجهة المضاربة

تسلمت آمال عبد اللطيف حقيبة وزارة التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية في ظرف حساس يتطلب حضورا قويا وقرارات حاسمة. فهذه الوزارة تُعد صلة الوصل المباشرة بين الحكومة والمواطن، لأنها مسؤولة عن تأمين المواد الأساسية وضمان استقرار الأسعار في مختلف المواسم. وبالنظر إلى التوجيهات الرئاسية المتكررة بشأن حماية القدرة الشرائية، فإن الوزيرة الجديدة مطالبة بترجمة هذه التعليمات إلى سياسات عملية ملموسة. أولى المهام المنتظرة من الوزيرة هي محاربة المضاربة التي أضحت تهدد استقرار السوق في عديد المواد الاستهلاكية. فقد شددت رئاسة الجمهورية في أكثر من مناسبة على ضرورة مواجهة شبكات المضاربين بالصرامة القانونية، باعتبارهم أحد أسباب الاختلالات التي يعرفها السوق. ويُنتظر أن تُفعّل الوزارة آليات الرقابة الميدانية وتعزيز التعاون مع الأجهزة الأمنية والقضائية للحد من هذه الممارسات التي تنعكس مباشرة على المواطن. كما تبرز مهمة أخرى لا تقل أهمية، وهي ضمان وفرة المنتجات والسلع الأساسية بشكل دائم ودون أي تذبذب. فالمواطن ينتظر أن تكون المواد الغذائية، الأدوية، والسلع الاستهلاكية متوفرة بانتظام، خاصة في الفترات الحساسة مثل الدخول الاجتماعي أو المناسبات الدينية. ولهذا، فإن الوزارة مدعوة إلى تعزيز التنسيق مع الدواوين الوطنية والإدارات المحلية، لضمان التدخل السريع في حال بروز أي ندرة أو اضطراب في التوزيع. إلى جانب ذلك، تبقى مراقبة الأسعار من أكبر التحديات أمام الوزيرة الجديدة، إذ يتعين على مصالحها تكثيف عمليات الرقابة في الأسواق، والتأكد من احترام شبكات التوزيع للقوانين، مع تفعيل العقوبات ضد المخالفين. هذه المهام مجتمعة تضع وزارة التجارة الداخلية في قلب المعركة اليومية من أجل استقرار السوق، ما يجعل من آمال عبد اللطيف مسؤولة عن واحد من أكثر الملفات حساسية في الحكومة الجديدة.

 

التجارة الخارجية.. رهان الصادرات وتنويع الشركاء

كما تضع الحكومة الجديدة على عاتق وزير التجارة الخارجية وترقية الصادرات، كمال رزيق، مهمة مصيرية تتمثل في إخراج الجزائر من “عباءة المحروقات” وتنويع مواردها المالية. فبعد سنوات من الاعتماد شبه الكلي على النفط والغاز، صار لزاما على الوزارة أن تدفع بالصادرات غير الهيدروكربونية إلى مستويات أعلى، وتعيد رسم خريطة المبادلات التجارية بما يخدم مصالح البلاد الاقتصادية والسياسية. الأرقام تكشف حجم التحدي: ففي سنة 2023 بلغت قيمة الصادرات خارج المحروقات حوالي 5.1 مليار دولار، أي ما يعادل 2٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي، ورغم أن هذا الرقم يبقى ايجابي جدا بالمقارنة مع أرقام قبل عام 2021، إلا أنها تبقى بعيدة نسبيا عن الاستراتيجية الحكومية التي تهدف إلى بلوغ 29 مليار دولار بحلول 2030. هذه القفزة الضخمة تضع الوزير رزيق، أمام امتحان مزدوج: رفع القيمة الإجمالية للصادرات، وضمان تنويعها نحو قطاعات صناعية وزراعية قادرة على المنافسة. ولعل أبرز الملفات التي يتعين عليه متابعتها هو توسيع قاعدة الأسواق، خصوصا عبر الانفتاح على إفريقيا في إطار “زليكاف”، إلى جانب تعزيز الحضور في آسيا وأمريكا اللاتينية. فالاتكال شبه الكامل على السوق الأوروبية لم يعد خيارا استراتيجيا، خاصة في ظل التوترات التجارية وشروط الشراكة غير المتكافئة. هنا سيكون دور الوزير رزيق حاسما في التفاوض على اتفاقيات متوازنة وفتح ممرات تجارية جديدة تخفف الضغط على الاقتصاد الوطني. إلى جانب ذلك، يواجه الوزير مسؤولية تبسيط الإجراءات وتخفيف الأعباء عن المصدرين، من خلال إصلاح النظام الجمركي وتوفير تحفيزات ضريبية وضمان بنية تحتية لوجستية عصرية. فالتجارب السابقة أثبتت أن ضعف الخدمات المينائية وتعقيد المساطر الإدارية كانا من أبرز العراقيل أمام المصدرين الجزائريين. نجاح رزيق في هذا المسار سيحدد ما إذا كانت الجزائر قادرة فعلا على التحول إلى قوة تصديرية إقليمية، أم ستظل رهينة المحروقات لعقد جديد آخر.

 

المحروقات والمناجم.. ثروات تحت مجهر الاستثمار

تولى محمد عرقاب وزارة المحروقات والمناجم في الحكومة الجديدة بصفة وزير دولة، وهو تعيين يعكس الأهمية القصوى لهذا القطاع في المرحلة القادمة. فالمحروقات ما تزال تشكل العمود الفقري للاقتصاد الجزائري، إذ تمثل أكثر من 90 بالمائة من عائدات التصدير، لكن المهمة اليوم تتجاوز مجرد الحفاظ على مستويات الإنتاج نحو إعادة رسم استراتيجية استغلال الثروات الطبيعية بما يخدم الأمن الطاقوي والانتقال الاقتصادي. على صعيد النفط والغاز، يواجه الوزير مهمة زيادة الإنتاج وتوسيع الأسواق. فالجزائر تضخ سنويا ما يقارب 100 مليار متر مكعب من الغاز، وتحتل مكانة متقدمة كمزود رئيسي لأوروبا، خاصة إيطاليا وإسبانيا. غير أن الطلب الأوروبي المتزايد يفرض على الوزارة تعزيز الاستثمارات في الاستخراج وتطوير حقول جديدة، مع تحديث البنية التحتية لخطوط الأنابيب والرفع من قدرة التخزين والتسييل. أما في مجال المناجم، فإن المهمة لا تقل ثقلا. الجزائر تزخر باحتياطات ضخمة من الحديد، الذهب، الزنك، والفوسفات، إضافة إلى الليثيوم واليورانيوم في الجنوب. وقد تم إطلاق مشاريع كبرى مثل منجم غار جبيلات للحديد ومنجم الفوسفات بشرق البلاد، وهي مشاريع تراهن عليها الدولة لإرساء صناعة تحويلية تخلق قيمة مضافة وتوفر آلاف مناصب الشغل. عرقاب سيكون مطالبا بمتابعة هذه المشاريع عن قرب وضمان الشفافية والفعالية في إنجازها. كما أن استقطاب الشركاء الأجانب يُعتبر من أبرز التحديات التي تنتظر الوزير. فالتجارب السابقة أثبتت أن جلب التكنولوجيا والتمويل ضروري لتسريع استغلال المناجم المعطلة. لذلك، من المتوقع أن يركز عرقاب على توقيع شراكات استراتيجية مع شركات عالمية، خاصة من الصين وروسيا وأستراليا، مع ضمان أن تبقى السيطرة بيد الجزائر على مواردها السيادية. نجاحه في هذا الملف يعني الانتقال من مرحلة “بلد مُصدر للمحروقات” إلى “بلد طاقوي ومعدني متكامل” قادر على فرض مكانته في السوق العالمية.

 

الطاقة والطاقات المتجددة.. رهان الانتقال الطاقوي

من جهته، يتولى مراد عجال وزارة الطاقة والطاقات المتجددة في سياق حساس يتطلب إعادة التفكير في منظومة إنتاج الكهرباء ومصادرها. فالطلب الوطني على الطاقة يشهد ارتفاعا متسارعا مع النمو الديمغرافي وتوسّع الاستهلاك الصناعي، ما يفرض ضرورة تنويع المصادر وعدم الاكتفاء بالغاز الطبيعي الذي يمثل حاليا أكثر من 95 بالمائة من إنتاج الكهرباء. مهمة الوزير تبدو واضحة: قيادة الجزائر نحو “الانتقال الطاقوي” عبر الاستثمار في الشمس والرياح، دون المساس بدور المحروقات كدعامة رئيسية. من بين المشاريع الاستراتيجية التي تنتظره، مشاريع الطاقة الشمسية، كما يظل قطاع الرياح غير مستغل بشكل كاف، رغم أن الدراسات تشير إلى إمكانات معتبرة في الهضاب العليا والصحراء. إنجاز هذه المشاريع سيمكن من تخفيف الضغط على الغاز الموجه للاستهلاك الداخلي، وتحرير كميات إضافية للتصدير. إلى جانب الإنتاج، تبقى مسألة تحديث الشبكات الكهربائية من أبرز التحديات، إذ لا يمكن دمج الطاقات المتجددة في الشبكة الوطنية دون تطوير بنيتها التقنية وتعزيز قدرتها على استيعاب مصادر متقطعة كالشمس والرياح. هنا يُنتظر من الوزير قيادة عملية إصلاح عميقة تشمل الاستثمار في الشبكات الذكية والتخزين الطاقوي. كما أن الانفتاح على الشراكات الأجنبية يشكل جزءا من مهمته، فالتجارب الدولية تؤكد أن جلب التكنولوجيا والتمويل ضروري لإنجاح مشاريع الطاقات النظيفة. وعليه، سيكون على عجال أن يوازن بين استقطاب الشركات العالمية مثل الصينية والأوروبية، والحفاظ على سيادة الجزائر على مشاريعها. نجاحه في هذا الملف سيحدد ما إذا كانت الجزائر قادرة على التحول من مصدر تقليدي للغاز إلى لاعب أساسي في سوق الطاقات النظيفة.

 

الفلاحة والتنمية الريفية.. نحو أمن غذائي مستدام

ويمثل تعيين ياسين المهدي وليد على رأس وزارة الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري، خطوة لافتة، إذ يُنظر إلى هذا القطاع على أنه أحد أعمدة “الاقتصاد الجديد” بعيدا عن الريع النفطي. المهمة الأساسية للوزير واضحة: رفع الإنتاج الوطني وضمان الأمن الغذائي، في وقت تشهد فيه الأسواق العالمية اضطرابات متواصلة في أسعار الحبوب والزيوت واللحوم، ما يجعل التعويل على الإنتاج المحلي خيارا استراتيجيا لا مفر منه. من أبرز الملفات التي تنتظر الوزير الشاب، رقمنة القطاع وإدخال التكنولوجيا الحديثة. فالجزائر وضعت في السنوات الأخيرة برامج لإدخال أنظمة السقي الذكي، استخدام الطائرات المسيّرة لمراقبة الأراضي الزراعية، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية للفلاحين. هذه الخطوات تهدف إلى تجاوز الأساليب التقليدية وتحويل الفلاحة إلى قطاع أكثر إنتاجية وفعالية، بما يتماشى مع متطلبات السوق الداخلية والخارجية. كما تبرز أهمية توسيع المساحات الزراعية في الجنوب الكبير، حيث يمكن للزراعة الصحراوية أن تصبح رافعة أساسية للإنتاج الوطني. مشاريع الحبوب في ولايات مثل أدرار وبسكرة والمنيعة، أثبتت أن الاستثمار في هذه المناطق ممكن إذا توفرت المياه والتقنيات الحديثة. الوزير الجديد سيكون أمام تحدي تعزيز هذه التجارب الناجحة وتعميمها بما يساهم في تقليص فاتورة استيراد القمح التي تكلف الجزائر مليارات الدولارات سنويا. إلى جانب ذلك، يُنتظر من الوزارة تحفيز الفلاحين والشباب المقاولين من خلال تسهيلات مالية وإدارية، وتشجيع التعاونيات الزراعية التي يمكن أن تضيف قيمة حقيقية عبر التصنيع الفلاحي (كالتعليب والتبريد والتسويق). هذا التوجه يضمن وفرة المنتجات في السوق المحلية، ويفتح الباب أمام زيادة الصادرات الزراعية، مثلما هو الحال مع التمور التي حققت حضورًا معتبرًا في الأسواق العالمية. نجاح الوزير في هذه المهمة سيجعل من الفلاحة أحد مفاتيح تقليص التبعية للمحروقات وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. حكومة سيفي غريب تبدو أمام امتحان اقتصادي ثقيل، حيث تتوزع الرهانات بين ترقية الصناعة وحل أزمة السيارات، ضبط السوق الداخلية، رفع الصادرات خارج المحروقات، استغلال ثروات المحروقات والمناجم، وتسريع الانتقال الطاقوي والفلاحي نحو أمن غذائي مستدام. هي ملفات متشابكة تجعل من الحكومة الجديدة حكومة “النتائج الملموسة” بامتياز، فالمواطن لم يعد ينتظر الوعود بقدر ما يترقب الأثر المباشر في معيشته اليومية. وبذلك، سيكون معيار النجاح أو الإخفاق مرهونا بمدى قدرة هذه الحكومة على تحويل التوجيهات الرئاسية إلى إصلاحات فعلية تعزز الاقتصاد الوطني وتدفع الجزائر بخطى ثابتة نحو المستقبل.