لاشك أن حلاوة الحياة في القرى نابعة من اجتماع العائلة حول “الكانون”، خاصة في أيام عز الشتاء والبرد القارس، حيث تنهمك الجدة أو الجد في سرد حكايات شعبية قديمة، في جو حميمي مملوء بالدفء العائلي، يسوده الضحك، الحب والحنان.
حكايات الجدات ودفء “الكانون” ينسي برودة الشتاء
قبل سرد الحكايات، تحضّر الأم الأكل والذي عادة ما يكون “الكسكسي” أو طبقا ساخنا يتناسب مع برودة الطقس تحت اسم “احلويظ” ويأكلون في طبق واحد وهو ما يسمى بـ واعتماد هذه الطريقة في الأكل كان منذ قدم الزمان ليس مرده نقص الأواني، وإنما لغرس روح المحبة وتمتين العلاقة بين أبناء العائلة الواحدة، وبالتالي تحقيق التفاهم والمحبة بينهم.
وبعدها تبدأ الجدة حكاياتها التي هي بصدد سردها أمام أحفادها الصغار وحتى الكبار المتشوقين، بعبارة “لتكن حكايتي جميلة ومتسلسلة مثل الخيط” وذلك لغرض جلب انتباه المستمعين المدعوين إلى رحلة في عالم خارق خارج عن كل زمان ومكان.
ويكمن سر سحر هذه القصص في كونها تروى خلال ليالي الشتاء القارسة والطويلة التي يملؤها عواء كلاب ابن آوى الجائعة وزفير الرياح في الوقت الذي يجتمع فيه أفراد العائلة حول دفء “الكانون” التقليدي الذي تتطاير منه شرارات الحطب المحترقة وتتوسطهم الراوية التي يظل الأطفال يلحون عليها حتى تقبل بسرد إحدى قصصها العديدة.
الأطفال يسافرون عبر حكايات الجدة إلى عالم المغامرات الخارقة
كان يا مكان في بلاد بعيدة……
تشرع “الجدة” دوما في سرد كل قصصها المعتمدة باستعمالها عبارة “كان يا مكان في بلاد بعيدة..” في غالبيتها على نظرة ازدواجية لشؤون الحياة تعارض فيها الخير والشر والشرير مع الخير والكريم مع البخيل والأمين مع الخائن والشجاع مع الجبان والغني مع الفقير وعديد الثنائيات الأخرى التي تقوم عليها كل القصص والروايات الشعبية، لينتهي الأمر بانتصار الفضيلة والعدالة على الرذيلة بكل أشكالها.
لكن هذا لا يمنع وجود بعض الاستثناءات لهذه القاعدة العامة مثلما هي الحال في قصة “مسمار ومسيمر”، حيث تتعمد العناية الالهية من أجل معاقبة المجتمع الذي ضل عن سواء السبيل إلى اختيار مسمار اللص لتجعل منه “معلم” أو حاكم تلك البلدة أمام امتعاض ”مسيمر المثالي” المحكوم عليه بالنفي إلى الصحراء عقابا له على لطفه وطيبته. وتعتبر قصص ”بقرة اليتامى” و”الحبة السحرية” و”الملك الأصلع” و”لونجة بنت الغول” من بين تلك الروايات التي صمدت أمام زحف الحداثة بفضل هاته الحارسات للذاكرة الشعبية اللائي لازلن يواصلن النضال ضد كل أشكال الغزو الثقافي للحفاظ على هذا التراث .
بالرغم من هذه المقاومة المستميتة، يبرز جليا أن المعركة غير متساوية أمام المنافسة الشديدة التي تفرضها كل أنواع التسلية المعاصرة التي بإمكانها في النهاية أن تكون سببا في زوال جوانب لا يستهان بها من التراث اللامادي إذا ما تم الاستمرار في عدم اسهام الكتاب والسينما والتلفزيون والمسرح والغناء وكل وسائل الإعلام الأخرى في مجهود الحفاظ على هذا التراث بالنظر للأهمية البيداغوجية التي تكتسيها الرواية والقصة في تربية الطفل وتعليمه لغته الأم، بحسب ما يراه المختصون.
الحكاية المدرسة الأولى في تكوين الأجيال
ولعبت الحكاية منذ غابر الأزمان دور المدرسة التي كان يتلقى فيها القدماء المعرفة الضرورية لتنمية حسهم النقدي، وفقا لتأكيد المربين في إبرازهم للأهمية القصوى لهذه الوسيلة التعليمية في تكوين الأجيال .
ويجدر الذكر أن لكل رواية وقصة مستقاة من الإرث التقليدي الشفوي عبرة ورسالة أخلاقية تترجمها أقوال مأثورة لا يعي عمقها سوى الحكماء الضالعين في لغة سي محند اومحند.
وترفض الراوية دوما ترجمة هذا المعنى لتتركه لفهم مستمعيها الذين يحاول كل منهم استيعاب الرسالة وفقا لتجربته الحياتية وفهمه الخاص للأمور تماما مثلما هو الأمر لأي عمل فني. كما يذكر أن الراويات هن الجدات اللائي يحتفظن في ذاكرتهن بحكايات مثيرة أخذنها عن أجيال من النساء سبقنهن لتسلية ومواساة أنفسهن من مغبات الحياة الكثيرة وبهدف إيصالها بدورهن إلى أجيال المستقبل، وهناك من احتفظ بها وأصبحت حكايات تروى في كل ليلة من ليالي الشتاء الباردة، أما البعض الآخر فتناساها ولم يحتفظ بها.
ق.م