حقيقة الأمانة

حقيقة الأمانة

 

وكثيرٌ من الناس يحصرون الأمانة في الوديعةِ، والوديعةُ جزءٌ منها وليست كلها؛ إذ الأمانة بمعناها العام تشمل الدين كلَّه، وهي المذكورة في قول الله تعالى ” إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ” الأحزاب: 72. فدِين الله تعالى الذي نَدِين به، وشريعته التي أنزَلَها علينا بكافَّة تفصيلاتها، والعبادات التي نقوم بها، والمعاملات التي نُعامِل بها غيرنا، سواء قَرُب مِنَّا أو بَعُد عَنَّا، كلُّ أولئك من الأمانة التي حُمِّلنا إيَّاها، ويجب أن نؤدِّيها، وسنُسأَل عنها يوم القيامة؛ ” فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ” الحجر: 92- 93.

ورعيَّة الإنسان أمانةٌ عنده ابتداءً بجسده، فولده وأسرته، وكل مَن تحت ولايته، صَغُرت ولايته أم كَبُرت، وكُلَّما كانت الولاية أكبر كانت الأمانة أثقل، وكان حملها أشقَّ، ومِن ضَعْفِ دين الناس وجَهْلِهم أنهم يبحثون عن الولايات والمناصب ولا يدرون تَبِعَة ما يحملون، ولا عِظَم ما يطلبون! والرجل إذا أضاع أمانة دينه فتساهَل بالواجبات الشرعيَّة وأَلِف الخيانة في حقوق العباد عُوقِب بقَبْضِ الأمانة من قلبه، والله تعالى مُنَزَّهٌ أن يَقبِض الأمانة من قلبِ أحدٍ دون سبب؛ ” فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ” الصف: 5، فتضييعهم لبعض أمانات الشريعة، وتَمادِيهم في ذلك أدَّى إلى رَفْعِ الأمانة من قلوبهم، وامتلائها بالخيانة.

وإذا عَمَّ تضييعُ الأمانة في المجتمعات بنشر المعاصي فيها، وفتح أبواب المنكَرات على مَصارِعها، واستَهانَ الناس بحرمات الله تعالى فانتَهَكُوها، زالَ عنهم الأمن بزوال الأمانة، وحلَّ الخوف بانتشار الخيانة، فلا يَثِقُ بعضهم ببعض، ولا يأمن بعضهم بعضًا، فعُوقِبوا على مَعاصِيهم برفْع الأمانة من قلوبهم حتى يكون الأمين غريبًا فيهم، فيذكر الجمعُ من الناس قبيلةً كانت أم عشيرة أم فصيلاً من الناس، فيُقال: إنه لا يزال فيهم أمين! وذلك لنُدْرَة الأُمَناء وضَعْفِ الأمانة، وكثرة الخَوَنة، وسِيادَة الخيانة، وينتج عن هذه الحال الرديئة انقلابُ المفاهيم، وانتكاسُ الموازين، وذمُّ ما يُمدَح، ومدحُ ما يُذَمُّ؛ فيَتمدَّح الناس بالأخلاق المرذولة، ويُثنون على أصحابها، وينتَقِدون الأخلاق المحمودة، ويذُمُّون أصحابها.