تقديم: لقاء بين شاعرين تفرقت بينهما الدروب، فكان واحد بالجيش والثاني في الجبل، وكان هذا اللقاء في لحظة مواجهة كانت المسافة بينهما حفنة من الذكريات وفوهة بندقية.. مرفوعة للشاعر الكبير عيسى لحيلح .
في رتل طويل أسير، أمدّ خطوات وهني، متعبة، تجر في أذيالها أثار دروب وعرة وشاقة، أنحني من أشواك تلسع جلدي حينا،
ويدغدغ برعم خدي حينا آخر، أضم بندقيتي إلى صدري، أتحسس برودة زنادها النائم تحت سبابتي تراقب عيني الطريق، أبعث تنهيدة عميقة من صدري، مـــــا أطولك يا ليل المتعبين ..
ينبطح الذي قبلي والذي بعدي وأتسمّر مكاني واقفا لأراك من بعيد وأسمع صوتك يأتيني لكنه بلحن جديد، تقول :
“التقينا يا عيسى التقينا…
كنا ننتظر رحيل الشمس …
فالشمس كما قالوا قبل السير تعرينا
وذا الليل يسترك ويسترني ويعجل لذة لقائنا
لكني وأنت والشمس ندري
أنهم أرادوا ستر ما تبوح به مقلتينا
انبطح أرضا، وجيب القلب يتسارع، أفكار في رأسي تتصارع، أطارد خوفا وأذكر أن بيدي رشاشي جاهز للقنص، سبابتي عرفت طريق الزناد
لكني أعود وأتذكر أنك لا بالنار تقتل، تعود بي الذكريات إلى الوراء
كنا نتقاتل بالأحرف، بالكلمات وكنت تقتلني وأقتلك ثم نضحك و نسير
شوارع المدينة تذكرني وتذكرك، تحفظ أشعاري وأشعارك
وتلك المقاهي التي طالما احتضنت أتعابنا، هواجسنا، أحلامنا، تذكر أحاديثنا عن وهج الحرف ووجع الكلمة؟
آه كم أتوق لأن أحضنك كما كل لقاءاتنا القديمة
لكن المسافة بيني وبينك فوهة بندقية
وها همسك يأتيني من جديد وأسمعك تدغدغ سمعي فتقول :
“عيون مدينتك يا عيسى تراقبك
ومدينة عيونك ترافقك
طفولة ترهقك
كنا يا عيسى كباقي الأتراب
نلعب بالتراب
نعشق الشعر، ونشعر العشق
ونؤمن بالكتاب
كان لنا يا عيسى أصحاب
نستلفهم الدينار والألعاب
دون حساب
دون عتاب
دون عقاب
في هده الدروب يا صاحبي تجولنا سويا، استنشقنا نفس الهواء، جلسنا تحت ظل واحد، لماذا الآن أنت بعيد هل أنت خائف مني؟ ألم أكن قلبك الآخر وصدرك الدافئ؟ لماذا أنت هنا؟ لماذا جئت معهم؟
وإذا سألتك لا تسل
فالغابة يا صاحبي تمنح لقصيدتي اللحن ولجسدي السكن
فلك يا صاحبي فراش دافئ وأطفال كالطيور الآمنة تزين حضنك
ولي صقيع البعد ونار الشوق
لك يا صاحبي الاختيار ولك القرار في شارع كبير اسمك أو بناية تكتبه صرخة بندقية أو تريده مرصعا بآه كبير في قافية
هل حدّثوك عن دروب أنت تعرفها وأنت قادم إل ؟
ويأتيني صوتك كالهمس تقول :
“قالوا يا عيسى ونحن في طريقنا إليك
من هذا الينبوع عيسى شرب
ومن فوق هده الصخرة وثب
وبين هذه الأحراش هرب
وقلت وتحت هده الزيتونة عيسى كتب
سداااااات آه من قدوم الطائرات”
قدر عليّ أن أكون هنا، قل هارب من مصير تعرفه، قل مؤمن بقضية أحملها، قل ما شئت، تعرفني ولا يعرفون، تحبني و يكرهون …
ما زلت كما كنت أحمل بصدري همّا وحبا لك ولهم، لهذا الوطن الذي عشقنا تربته، وتقاسمنا همومه، جرحي يا صاحبي كبير، جرحي لم تخلّفه طلقة ولا شظية، قضيتي يا صاحبي هي جرحي وألمي هو القضية ..
كنا معا يجمعنا الحرف إذا فرّق بيننا الانتماء أو الهوية، وكان قتالنا لذيذا يفجر في أنفسنا وهجا أكبر وعشقا للقصيد أعظم، هل غيّرتك يا صاحبي الأيام؟ وهل محت من قلبك كل الذي كان؟ و هل جئت تريد الانتصار؟
“الطير طار يا عيسى طار ..
وبقيت وحدك والانتظار
هناك لا قطار لا مطار
لا هزيمة لا انتصار
لا ذهاب لا رجوع ..
لا رسو لا إبحار
هناك يحاك الشعر ثوبا للإنتحار
رابح جعفر – جيجل –