اعلَم أن النَّفْس البشرية جُبِلَت على حب المال، قال تعالى: ” وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ” الفجر: 20، وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لو كان لابنِ آدمَ واديانِ من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ” أخرجه أحمد. ” قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ” الإسراء: 100، فهذا يدلُّ على أن حرصَ ابنِ آدم وخوفَه من الفقر الباعثَ له على البخلِ حتى على نفسه أقوى من الطير الذي يموتُ عطشًا على ساحل البحر خوفًا من نفادِه، ومِن الدودة التي قُوتُها التراب وتموت جوعًا خشيةً من فراغه؛ لأن ما ذكر من الماء والتراب في جنب خزائن رحمة ربِّ الأرباب كقطرة من السحاب.
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يكبَرُ ابنُ آدمَ ويكبُرُ معه اثنانِ: حب المال وطول العمر”، قالوا: والحكمة في التخصيص بهذينِ الأمرين أن أحبَّ الأشياء إلى ابن آدم نفسُه، فهو راغبٌ في بقائها، فأحَبَّ بذلك طول العمر، وأحبَّ المالَ؛ لأنه مِن أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبًا طولُ العمر، فكلما أحسَّ بقرب نفادِ ذلك، اشتد حبُّه له، ورغبته في دوامه. واعلَم أن المالَ أخبر عنه الكبيرُ المتعال بأنه فتنةٌ يفتن بها المرء فتصُده عن طاعة الله، أو تأمره بمعصية الله جل في علاه، ” إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ” التغابن: 15. عن عِياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وإن فتنةَ أمتي المالُ” أخرجه أحمد. قال المناوي رحمه الله: ” إن لكل أمةٍ فتنةً”؛ أي: امتحانًا واختبارًا، وقال القاضي: أراد بالفتنة الضلالَ والمعصية، ” وإن فتنةَ أمتي المالُ “؛ أي: الالتهاءُ به؛ لأنه يشغَلُ البال عن القيام بالطاعة، ويُنسِي الآخرة، قال سبحانه وتعالى: ” إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ” التغابن: 15، وفيه أن المال فتنةٌ، وبه تمسَّك من فضَّل الفقر على الغنى، قالوا: فلو لم يكُنِ الغنى بالمال إلا أنه فتنةٌ، فقلَّ مَن سلِم مِن إصابتها له وتأثيرها في دينه، لكفى.