وقفت دولة الاحتلال بضباطها ومحاكمها في مواجهة فيلم وثائقي لا تتجاوز مدة عرضه الساعة الواحدة، وظلت تحاربه وتصادر حرية مخرجه الفلسطيني محمد بكري لعقدين من الزمان، ورغم ذلك استطاع الفيلم أن يحمل رسالته إلى العالم كله في الوقت الذي منع عرضه في أرضه لأكثر من 20 عاما.
فيلم “جنين.. جنين” قدم للعالم صورة من الواقع الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية العمياء من قتل ودمار ويأس من فكرة السلام التي طالما تغنى بها قيادات إسرائيل.
ولم يقدم الممثل العالمي والمخرج محمد بكري في وثيقته الفيلمية أي نداء للمقاومة أو الرد بعنف على المذبحة الإسرائيلية في مخيم جنين التي تتكرر اليوم، ولكنه قدم مقولة واحدة داخل الفيلم، وهي أنه ينبغي أن ينتهي هذا الاحتلال حالا، ودعم مقولته بصورة لنفوس وأرواح كان ينبغي أن تكسرها المجزرة الصهيونية طبقا لحسابات من أمروا بها، لكن الفيلم أظهر ذلك القدر المدهش من الصلابة والشجاعة والتعايش مع الحديد والنار التصاقا بالأرض وتمسكا بها.
وتعود حكاية جنين إلى العام 2000 بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية واندلاع الانتفاضة الثانية، التي واجهتها إسرائيل باجتياح الضفة الغربية بالكامل وبينها مخيم جنين، لتدمر البيوت وتقتل العشرات من الفلسطينيين بين طفل وامرأة ورجل عجوز وشاب وحتى الجنين في رحم أمه.
وقدم بكري وثيقة إدانة للضمير الإنساني كله بسبب الصمت والتواطؤ مع المحتل على كتم الصوت المنادي بالحرية وإزهاق الروح الحرة في المخيم، ليبقى أفريل 2002 لحظة يكللها العار في عالم يزعم انتماءه لقيم الحرية وينادي بحقوق الإنسان في كل بقعة على الأرض باستثناء فلسطين.
في البداية، يظهر على الشاشة شاب ذو ملامح عربية يكسوها الفزع والحزن، وبعد لحظات من استخدامه لغة الإشارة، نعلم أنه أخرس، وهو يصف عملية إطلاق رصاص على شاب أعزل.
الفلسطيني الأخرس هو الراوي الحقيقي للعمل رغم وجود عدد كبير من الضيوف، بينهم أكثر من ضيف رئيسي يمكن اعتباره الراوي الذي يصلح تماما لتقديم القصة وتقديم الرؤية وتلخيصها عبر كلمات مكثفة ولغة مفعمة بالوعي والخبرة الإنسانية العميقة والإرادة الحديدية “كلما أنجبنا طفلا قتلوه، كلما زرعنا حديقة خلعوا زرعها، وكلما بنينا بيتا هدموه… أين العالم؟”.
ظهر الشاب الأخرس كمفصل رئيسي في بداية العمل وفي منتصفه وفي نهايته، ليشير إلى أن كتم الصوت الفلسطيني ليس إلا تصرف قصير الأمد، فسوف يتجسد في صورة، وإن أخفيت الصورة سيجد طريقه إلى العالم بطرق أخرى.
لم يقتصر الفيلم على إرادة العيش والأمل في مستقبل أكثر صمودا وإشراقا عبر فتاة على أبواب الصبا، لكنه قدم جيلا أوهنه الزمن وهزمته ظلمات الظلم، في صورة عجوز تعرض للقهر والإذلال وإطلاق الرصاص على يده وقدمه دون أي مبرر لأي صاحب عقل، فلا موقف خطيرا ولا خطورة لرجل كسا الشيب شعره وانحنى ظهره، وسبقته دموعه، ليظهر الصوت المتكرر في الفيلم لرجل أربعيني أنضجته التجربة يحكي قصة الهجوم ويخلد الضحايا بصوته، ويؤكد أن كل أمل في السلام أطلق عليه القوات الإسرائيلية الرصاص، وأن احتمالات السلام تضعف مع كل قطرة دم جديدة.
بكري المخرج الناضج الذي قدم صورة إنسانية بليغة، لم يتجاهل تلك التفاصيل الصغيرة التي أكدت لعالم لا يرى إلا من خلال عدسة منحازة، إنسانية الفلسطيني الذي ضحك وبكى وعبر عن حبه للحياة وتمسكه بالأرض والأمل.
لم يكتف بكري في “جنين.. جنين” بتقديم الإنسان الفلسطيني الصامد وتوثيق جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومجزرة جنين 2002، ولكنه صعد بشعب الجبارين إلى مرتبة الأسطورة التي توقف العالم عن تأملها حين تعطل ضميره.
ق\ث