القتل الإسرائيلي، منذ “طوفان الأقصى” غير محصور بمنطقة فلسطينية من دون أخرى. يُريد المحتلّ انتقاماً يفوق كلّ ثأر في التاريخ، ويخطّ بدماء فلسطينيين وفلسطينيات فصلاً جديداً من وحشيته المتفوّقة على نفسها..
في إجرامٍ كهذا، تبرز جنين مُجدّداً كأنّ قدرها، وأقدار مدن وأناسٍ في فلسطين المحتلّة منذ 75 عاماً، يدفعها دائماً إلى واجهة المشهد، ما يُذكِّر بفيلمين اثنين، على الأقلّ، يوثّقان “مجزرة جنين” (1 ـ 11 أفريل 2002) بأسلوبين يختلف أحدهما عن الآخر كلّياً: “جنين جنين” (2002) لمحمد بكري (1953)، و”اجتياح” (2003) لنزار حسن (1960).
لن تكون الدعاوى والملاحقات والحملات سبباً لشهرة الفيلمين. فاستمرارهما، أقلّه بالنسبة إلى المهتمّين والمهتمّات بالسينما وفلسطين، متأتٍ من التقاطهما الفعل الجُرميّ الإسرائيلي وتوثيقه بالصُور والكلام، وإنْ يكن كلام الجندي يوفال، سائق جرّافة إسرائيلية تجرف/ تهدم كلّ عمارة وشارع أمامها في “أيام” المجزرة، انعكاسٌ لثقافة وتربية وسلوك، تجعله غير مكترثٍ بفعلته، فإنْ لم يُنفِّذ “المهمّة”، هناك آخر سيُنفِّذها، كما يقول. بساطة التصوير (المتعلّق بآثار المجزرة/ الجريمة) تبدو أقوى في إثارة صدمة إسرائيلية، ما يدفع جهات رسمية، عسكرية وقضائية وإعلامية، إلى مواجهة الشهادة البصرية، لكونها مرآة صادقة تعكس بعض الحاصل، وهذا ترفضه إسرائيل، وتجهد في تزويره أو إلغائه.
ويكتفي محمد بكري بتوثيق الجريمة، فور تمكّنه من دخول المخيّم بعد المجزرة. شهادات أهل المخيّم تعكس هول المجزرة. الصُور الملتقطة غداة الجريمة تؤكّد، من دون كلامٍ، ما تعكسه الشهادات. تقارير لاحقة تُكمِل الموثَّق. رغم هذا، يرفض الجيش الإسرائيلي “تشهير” الفيلم بضابطٍ من ضبّاطه. كأنْ لا أكاذيب ولا افتراءاتٍ ولا دجل ولا تزوير ولا تغييب لحقائق ووقائع فلسطينية، تمارسها إسرائيل منذ احتلالها فلسطين عام 1948. كأنْ لا مجازر ولا انتهاكات ولا تعدّيات ولا سرقات ولا اغتيالات، تجعلها إسرائيل ثقافة يومية لها، في مواجهتها تاريخاً وجغرافيا، وفي مقارعتها أناساً يعرفون التاريخ ويتمسّكون بالجغرافيا.
في “اجتياح”، أظهر نزار حسن ذكاءً بديعاً في استقدامه يوفال، وجعله يجلس على مقعدٍ في قاعة، عارضاً أمامه لقطات عن الخراب الحاصل في المخيّم، وجزءٌ من الخراب يصنعه يوفال نفسه، ومستدرجاً إياه إلى حوار بديع، يكشف جانباً من المعاناة الفلسطينية، من دون أنْ يقع المخرج والجندي معاً في لعبة الضحية والجلاد، إذْ أنّهما يظهران في الفيلم نَدَّيْن يتحاور أحدهما مع الآخر حول ما جرى، ليس وجهاً لوجه، فحسن يجلس في مقعدٍ يبعد مقعدين عن ذاك القائم خلف يوفال، بطريقة تشبه جلوس طبيبٍ نفسي مع مريضه، تُمكّن (الطريقة) حسن من استدراجه إلى قول شعور وتفكير، بلغةٍ لا تخلو من عصبيةٍ وعنجهية وعدم شعور بذنب، في مقابل تمسّك المخرج بالحقّ الفلسطيني في كشف الجريمة الإسرائيلية.
أما “جنين جنين” شهادة بصرية عن لحظةٍ راهنة. ورغم بساطته السينمائية، يحافظ على أهميته البصرية كوثيقةٍ تؤرّخ مجزرة، وتنقل عن ناجين منها وجعاً وقلقاً وخراباً ووقائع، وتعكس قدراتٍ على مواجهات دائمة مع محتلٍّ، قاتل ومُزوّر وناهبٍ. والفيلم يخلو من فذلكاتٍ وتصنّع، ويطمح إلى توثيقٍ بصري، فالصورة تحصِّن واقعة وحدثاً وحكاية من كلّ غياب.
ق\ث