قضية تحرر تعود من بوابة الجزائر

جمهورية الريف.. شعب يطالب بالسيادة

جمهورية الريف.. شعب يطالب بالسيادة
  • حقوق مسلوبة وممارسات قمعية.. وجهود لكسر جدار الصمت

في لحظة تجاوزت الصمت الدولي وخرقت جدار التعتيم الإعلامي، عادت قضية الريف إلى الواجهة من قلب العاصمة الجزائر، حيث احتضنت ندوة دولية سلطت الضوء على معاناة شعب يعيش تحت وطأة الاحتلال والتهميش منذ عقود.

اللقاء، الذي شارك فيه حقوقيون وإعلاميون وسياسيون من عدة دول، كشف عن حجم الانتهاكات التي تعرض لها الريفيون، واستعرض شهادات مؤلمة عن القمع والاضطهاد، مؤكدا أن ما يحدث في هذه المنطقة لا يمكن اختزاله في نزاع داخلي، وإنما هو نضال تحرري يستند إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها وفقا للشرعية الدولية. منذ أكثر من قرن، وتحديدا سنة 1921، أعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي عن قيام جمهورية الريف، في خطوة وُصفت آنذاك بأنها واحدة من أجرأ التحديات للاستعمار الإسباني والفرنسي في شمال إفريقيا. كانت هذه الجمهورية الوليدة تجسيدا لطموحات شعب بأكمله في التحرر وبناء كيان سياسي مستقل، يستمد شرعيته من المقاومة وليس من تحالفات القوى الكبرى. خلال سنوات قليلة، فرضت الجمهورية نفسها كواقع سياسي وعسكري على الأرض، وحققت انتصارات لافتة، ما أثار قلق القوى الاستعمارية ودفعها إلى توحيد جهودها للقضاء عليها.

 

قوبلت جمهورية الريف بتحالف عسكري ضخم قادته إسبانيا بدعم فرنسي مباشر، استخدمت خلاله أسلحة فتاكة، بما فيها الغازات السامة، التي خلفت آثارا مدمرة على السكان والبيئة. الهدف من هذا التحالف لم يكن مجرد إخماد تمرد مسلح، وإنما كان إنهاء تجربة سياسية مستقلة قد تلهم باقي الشعوب الخاضعة للاستعمار. ورغم قصر عمر الجمهورية، الذي لم يتجاوز خمس سنوات، فإنها تركت أثرا عميقا في الذاكرة الثورية لمنطقة الريف، وفتحت بابا واسعا للسؤال حول حق هذا الشعب في استعادة كيانه السياسي المفقود. مع نيل المغرب لاستقلاله سنة 1956، كان يُفترض أن تدخل منطقة الريف مرحلة جديدة من الاعتراف والمصالحة، غير أن ما حدث كان عكس ذلك تماما. تم إدماج الريف في الدولة المغربية دون أي اعتراف بخصوصيته التاريخية أو تضحياته في مواجهة الاستعمار، وتعرضت المنطقة لحملات قمعية متتالية، كانت أبرزها أحداث 1959، حيث سُحقت الاحتجاجات الشعبية بوحشية، وتم تدمير قرى بأكملها، وسُجلت حالات اختفاء واغتصاب وقتل لا تزال دون مساءلة أو اعتراف رسمي حتى اليوم. التاريخ الرسمي المغربي تجاهل عمدا مرحلة جمهورية الريف، وركز على سردية الوحدة الوطنية التي لا تسمح بوجود روايات بديلة. هذا الإقصاء شمل السياسات التنموية، التي همشت المنطقة وجعلتها تعاني من نقص كبير في البنى التحتية، وارتفاع نسب البطالة، وغياب المشاريع الكبرى. هذا التهميش الممنهج خلق شعورا متجذرا لدى أبناء الريف بأنهم مستبعدون من المشروع الوطني، وأن معاناتهم لا تجد صدى في المركز السياسي للرباط. اليوم، ومع عودة الحديث عن الريف في المحافل الدولية، بدأت الذاكرة الجماعية للمنطقة تستعيد حكاية الجمهورية المغيبة، لا بوصفها ماضيا منتهيا، وإنما كرمز للنضال والكرامة، وكإطار مرجعي لمطالب تقرير المصير. سردية جمهورية الريف لم تُدفن وظلت حاضرة في وجدان السكان، تنتظر لحظة تاريخية يعاد فيها الاعتبار لهذا الكيان الذي قاوم الاستعمار، ثم طُمس وجوده في خضم الحسابات السياسية للدولة الحديثة.

 

حقوق مسلوبة وممارسات قمعية

منذ ضم منطقة الريف إلى الدولة المغربية سنة 1956، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من التوترات التي لم تهدأ، حيث لم يتغير واقع الريفيين كثيرا عن مرحلة الاستعمار، سوى في الشعارات. فبدل أن تتحول الوعود إلى سياسات تنموية وعدالة اجتماعية، واجه السكان جدارا من الإقصاء والمراقبة، تكرست عبر حملات قمعية متكررة طالت كل صوت طالب بالكرامة أو أشار إلى تهميش المنطقة. وقد كانت انتفاضة الريف سنة 1959 محطة مأساوية في هذا المسار، إذ استُخدمت فيها القوة المفرطة ضد السكان، في حملة عسكرية خلفت المئات من القتلى والمفقودين. لم تقتصر الانتهاكات على الجانب العسكري فقط، إذ انتشرت الاعتقالات التعسفية والمحاكمات الجائرة، وشهدت السجون المغربية حالات تعذيب طالت معتقلين سياسيين من أبناء الريف، في ظل غياب أي رقابة قضائية مستقلة أو مساءلة حقيقية. شهادات موثقة تحدثت عن ظروف احتجاز مهينة، وحرمان من أبسط الحقوق القانونية، واستهداف منهجي لكل من يرتبط بالنشاط السياسي أو الثقافي المناهض للسلطة المركزية. ولم تتغير الأوضاع كثيرا في العقود الأخيرة، حيث شهدت احتجاجات الحراك الريفي عام 2017 موجة جديدة من القمع، أدت إلى اعتقال عشرات النشطاء، وإصدار أحكام ثقيلة في حقهم. التهميش الذي يعيشه الريف اليوم لا يقتصر على الحقوق السياسية، وإنما يمتد إلى كافة مجالات الحياة. المنطقة تعاني من ضعف في البنية التحتية، ونقص في المؤسسات الصحية والتعليمية، وغياب المشاريع الاستثمارية الكبرى، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر والهجرة. هذه المعاناة اليومية خلقت شعورا عامّا بالإقصاء، ودفعت الكثير من الشباب إلى الهجرة السرية أو البحث عن بدائل خارجية للتعبير عن تطلعاتهم، في ظل انغلاق الأفق السياسي المحلي. تتعامل السلطة مع المطالب الريفية بمنطق أمني صارم، فتُقابل الاحتجاجات بالسجون، وتُواجه الدعوات للحوار بالصمت، وهو ما فاقم أزمة الثقة بين الدولة وسكان الريف. الخطاب الرسمي لا يعترف بخصوصية المنطقة، ولا يعكس حجم التراكمات التاريخية التي تحتاج إلى مصالحة حقيقية، قائمة على الاعتراف والعدالة والإنصاف. وقد ساهم هذا الإنكار في توسيع الفجوة، وفتح المجال أمام قوى خارجية وحقوقيين دوليين لتبنّي القضية وطرحها على الساحة الدولية. في ظل هذا الوضع، يتحول الصمت الرسمي إلى عامل محفز لمزيد من الوعي المحلي، حيث بدأ الجيل الجديد من أبناء الريف يعيد اكتشاف تاريخه، ويدرك حجم الظلم الذي تعرض له، ويبحث عن سبل لاستعادة حقه في الحياة بكرامة. القضية أصبحت بندا مطروحا على طاولات النقاش في الندوات الدولية، كما ظهر في لقاء الجزائر، وهو ما قد يمهد لمرحلة جديدة من الاعتراف والضغط الدولي من أجل إنصاف الريفيين.

 

من الجزائر.. صرخة تضامن تعيد الروح لقضية منسية

في العاصمة الجزائر، ووسط حضور دولي متنوع، احتضنت هذا الأسبوع ندوة حول وضعية حقوق الإنسان في الريف المحتل، شكلت منعطفا رمزيا وسياسيا في مسار هذه القضية. اللقاء كان عبارة عن منصة نضالية حملت معها أصواتًا من مختلف القارات، جمعتها قناعة مشتركة بأن ما يحدث في الريف ليس شأنا داخليا معزولا، وإنما قضية تحرر تستدعي التضامن العابر للحدود. ولعل اختيار الجزائر كموقع لهذا الحدث لم يكن اعتباطيا، فهي الدولة التي لم تتوان يوما عن دعم حركات التحرر، واحتضان قضايا الشعوب المضطهدة. شهدت الندوة مشاركة نشطة لشخصيات سياسية وحقوقية من دول مثل إسبانيا، بلجيكا، هولندا، وإفريقيا الجنوبية، إلى جانب إعلاميين ونشطاء جزائريين. تعدد المشارب والخلفيات أضفى على اللقاء طابعا دوليا واضحا، وجعل من الحدث مناسبة لكسر الحصار الإعلامي والسياسي المفروض على الريف منذ عقود. الحضور طرحوا مبادرات ملموسة، ودعوا إلى تشكيل جبهة دولية لمرافقة نضال الشعب الريفي، وتسليط الضوء على معاناته، في ظل الصمت المريب الذي يطغى على المواقف الرسمية في الساحة الدولية. الرسالة الأقوى جاءت من الناطق الرسمي باسم الحزب الوطني الريفي، يوبا الغديوي، الذي تحدث بلغة واثقة عن ضرورة إطلاق مسار قانوني وسياسي يعيد الاعتبار للقضية الريفية. دعا إلى تفكيك الروايات المفبركة التي حاولت تصوير المقاومة على أنها تمرد، وطالب بالاعتراف بتاريخ الجمهورية الريفية التي وُئدت بقوة السلاح. كما شدد على أن القضية تستند إلى ثلاث مرتكزات أساسية: الحقيقة، والعدالة، والسيادة، وهي مرتكزات تعكس عمق الطموح في تحويل القضية من ملف حقوقي إلى مشروع تحرري متكامل. المشاركون استحضروا شهادات حية لمعتقلين سابقين، أبرزها شهادة، علي أعراس، التي شكلت لحظة مؤثرة في الندوة. تحدث أعراس عن معاناته في السجون المغربية، وعن الظلم الذي لحق به خلال سنوات اعتقاله، وهو ما حوّل قضيته إلى رمز دولي للانتهاكات الجسيمة. كما تدخلت الحقوقية البلجيكية ماري فرانسواز ديبريز التي رافقت نضاله لسنوات، مؤكدة أن هذه التجربة الشخصية تسلط الضوء على منظومة كاملة من القمع الممنهج، الذي يستهدف كل من يرتبط بمنطقة الريف أو يدافع عن قضيته. ما ميز الندوة هو ذلك التلاقي بين الأصوات الدولية والمحلية حول هدف مشترك: إعادة بعث قضية الريف كقضية تحرر، والتأسيس لرؤية جديدة تتجاوز حدود الخطابات التقليدية. الجزائر، التي استقبلت هذا الحدث، أرسلت برسالة واضحة مفادها أن دعم القضايا العادلة لا يخضع للحسابات السياسية، وأنها تظل وفية لمواقفها التاريخية، في وقت تراجعت فيه كثير من الدول عن التزاماتها الأخلاقية تجاه شعوب تطالب بالكرامة والحرية.

 

بين القانون الدولي والتضليل الرسمي.. من له الحق؟

قضية الريف تشكل اختبارا صارخا لمصداقية القانون الدولي في مواجهة واقع الاستعمار المقنّع. فقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960، الذي ينص صراحة على حق الشعوب في تقرير مصيرها، يضع الأساس القانوني لأي مطالبة بالاستقلال في حالة الاحتلال. ينطبق هذا النص بشكل واضح على وضعية الريف، الذي تم ضمه إلى المغرب بعد الاستقلال دون استشارة سكانه أو منحهم فرصة التعبير عن إرادتهم الحرة. ورغم مرور عقود، لم تُفتح أي تحقيقات أممية بشأن ظروف هذا الضم أو مدى توافقه مع القواعد الدولية. في المقابل، تبنّت السلطات المغربية خطابا رسميا يرفض الاعتراف بوجود قضية ريف من الأصل. هذا الخطاب يستند إلى سردية الوحدة الوطنية، ويصف كل من يطالب بتقرير المصير أو بمراجعة التاريخ بأنه انفصالي أو خائن. هذه المقاربة أدت إلى تجريم التعبير، وتبرير القمع، وتعطيل أي إمكانية لفتح نقاش داخلي حول الحقوق السياسية والثقافية لسكان الريف. في ظل هذا الواقع، يبدو أن الدولة لا تكتفي بالتحكم في الأرض، وإنما تسعى أيضا إلى السيطرة على الذاكرة الجماعية والرواية التاريخية. الخطورة تكمن في إنكار الحقوق، وفي تسويق هذا الإنكار على المستوى الدولي كخيار سيادي لا يقبل التشكيك. تعتمد السلطات على تحالفات سياسية واقتصادية مع قوى غربية لتقويض أي تحرك حقوقي يدعم الريف، كما تعمل على اختراق المنظمات الإقليمية، وفرض سردية رسمية تحجب الحقائق. هذه الممارسات تثير تساؤلات حول دور المجتمع الدولي، الذي غالبا ما يغض الطرف عن انتهاكات جسيمة عندما لا تتماشى مع مصالحه الجيوسياسية أو الاقتصادية. ومع تصاعد الحراك الريفي خلال السنوات الأخيرة، برزت محاولات من بعض المنظمات الدولية لإعادة طرح الملف في المحافل الحقوقية، غير أن هذه المحاولات لم ترقَ بعد إلى مستوى الضغط الفعلي. وقد شكلت ندوة الجزائر الأخيرة واحدة من أبرز المنصات التي سعت إلى ملء هذا الفراغ، من خلال التذكير بأن السكوت عن القمع لا يُسقط الحقوق، وأن القانون الدولي لا يُفعل إلا حين تتوفر الإرادة السياسية لتطبيقه. هذه المبادرات قد تمثل بداية لمسار قانوني أطول، يُبنى على التوثيق والمرافعة والضغط الحقوقي. كما تضع قضية الريف العالم أمام مفارقة مؤلمة: بين نصوص قانونية تعترف بالحق، وواقع سياسي يتجاهله بالكامل. في مثل هذه الحالات، يصبح دور الأصوات الحرة أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ تتحول المسؤولية من المؤسسات الرسمية إلى المنصات الإعلامية، والمنظمات الحقوقية، والنشطاء، الذين يقع على عاتقهم كشف التضليل، وطرح الأسئلة الممنوعة، والدفاع عن قضايا لا تجد من يمثلها في مجالس القرار الدولية.

 

إعلام، منظمات، ومناصرة.. نحو كسر جدار الصمت

وفي ظل تعتيم رسمي طويل امتد لعقود، أصبح الإعلام المستقل أداة حاسمة في إعادة بعث قضية الريف وتوثيق معاناة سكانه. بينما تمارس السلطات المغربية رقابة مشددة على الصحفيين المحليين، برز دور وسائل الإعلام الدولية والبديلة في نقل صوت الريفيين إلى الخارج، وكشف الانتهاكات التي يتعرضون لها بشكل ممنهج. هذا التحول في المشهد الإعلامي أتاح لقصص الريف أن تخرج من الطيّ السرّي إلى الفضاء العام، مدفوعة بإرادة قوية من نشطاء ومراسلين تحدوا المنع والملاحقة. الندوة التي احتضنتها الجزائر كانت مثالا واضحا على هذا التحول، إذ شاركت فيها إعلاميات من إسبانيا وهولندا قدمن شهادات عن التهميش الإعلامي الذي تعانيه قضية الريف. تحدثت الصحفية الإسبانية، آنا كوتيلا، عن الصعوبات التي واجهتها في تغطية ما يجري في المنطقة، مشيرة إلى أن الإعلام الرسمي في بلادها يميل إلى تبني الرواية المغربية دون تمحيص. أما الحقوقية الهولندية، شارون رييس، فقد شددت على أهمية بناء وعي جديد لدى الجيل الصاعد، ينطلق من سرديات الضحايا بدل الاكتفاء بخطابات الحكومات. في موازاة الجهد الإعلامي، تلعب منظمات المجتمع المدني دورا متزايد الأهمية في كسر الصمت وتدويل القضية. عدد من الجمعيات الحقوقية الأوروبية تبنّت ملفات معتقلين ريفيين، وعملت على توثيق حالات التعذيب والمحاكمات غير العادلة. إحدى أبرز هذه المبادرات تمثلت في لجنة “تحرير علي أعراس”، التي أعادت تسليط الضوء على معاناة هذا المعتقل السابق، ونجحت في تحويل قضيته إلى رمز للنضال ضد القمع السياسي. مثل هذه المبادرات تمثل أدوات ضغط فعلية على الحكومات والهيئات الدولية. وسائل التواصل الاجتماعي بدورها لعبت دورا محوريا في تحريك الرأي العام، إذ تحولت إلى منابر بديلة لنقل مشاهد القمع ومقاطع الشهادات، وتوفير مساحة للتفاعل والنقاش المفتوح. هذه المنصات مكنت نشطاء الريف من كسر الطوق الإعلامي الرسمي، وربط قضيتهم بقضايا أخرى عالمية، وهو ما ساهم في خلق تحالفات عابرة للحدود، وجعل من قضية الريف مسألة حقوقية تهم الإنسان أينما كان، وليس مجرد شأن محلي معزول داخل حدود دولة. كسر جدار الصمت لا يتحقق فقط من خلال نقل المعلومة، وإنما يتطلب إعادة تشكيل السردية العامة حول الريف. وهذا لا يتم إلا عبر تراكم الجهود بين إعلام حر، ومنظمات حقوقية مستقلة، وشهادات حية من الضحايا. الوعي الجديد الذي بدأ يتشكل يحمل في طياته طاقة كبيرة لمساءلة الرواية الرسمية، وبناء خطاب بديل يضع الإنسان في مركز الاهتمام، ويعيد الاعتبار لمنطقة طالما وُصفت بالتهميش دون أن يُفهم عمق القهر الذي تعرضت له.

 

حراك تحرري جديد؟

ومع تصاعد وتيرة الندوات الدولية والاهتمام المتزايد بقضية الريف، يطرح الكثيرون سؤالا حول ما إذا كانت هذه الديناميكية مقدمة لحراك تحرري جديد يعيد رسم مستقبل المنطقة. لم تعد المطالب الريفية بدأت تأخذ بعدا سياديا يتقاطع مع مفاهيم تقرير المصير واستعادة الكيان السياسي المفقود. هذه التحولات في الخطاب والمطالب تدفع إلى التفكير في مآلات القضية، خصوصا مع دخولها مرحلة التدويل الحقوقي والإعلامي. تاريخ المنطقة وتراكم الظلم السياسي والاجتماعي يشكلان أرضية خصبة لأي مشروع تحرري منظم. فالمقاومة في الريف لم تكن يوما ظرفية، وإنما جزء من هوية جماعية متجذرة في الذاكرة الشعبية. ومع عودة النقاش حول جمهورية الريف إلى الواجهة، بدأ الجيل الجديد يستلهم من تلك التجربة رمزية الاستقلال والكرامة، ويسعى لتحويلها إلى مشروع سياسي متكامل. ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن التحولات التي يشهدها العالم، حيث تبرز حركات تحرر جديدة تسائل الحدود القديمة، وتطالب بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. بعض المراقبين يرون أن قضية الريف تسير في مسار يشبه نماذج أخرى في المنطقة، مثل الصحراء الغربية، حيث أصبح النزاع محل جدل قانوني وسياسي دولي. ورغم اختلاف السياقات والخصوصيات، إلا أن هناك قواسم مشتركة تتعلق بحرمان السكان من حقهم في التعبير، واعتماد القوة بدل الحوار، واستعمال القوانين كأداة للهيمنة. هذه المقارنات لا تهدف إلى خلق تطابق تام، لكنها تسلط الضوء على إمكانية تحوّل الريف إلى ملف دولي فعلي، إذا استمر الزخم الحالي في التصاعد. السيناريوهات الممكنة أمام قضية الريف تبقى مفتوحة على أكثر من اتجاه. فإما أن تبقى محصورة في نطاق الحقوق والمطالب الاجتماعية داخل الدولة المغربية، أو تتجه نحو مسار تحرري أكثر وضوحا إذا ما توفرت الظروف الذاتية والموضوعية لذلك. في كلتا الحالتين، يبدو أن زمن الصمت قد انتهى، وأن الريف لم يعد مجرد هامش في جغرافيا الدولة، وإنما صار عنوانا لمرحلة جديدة من الوعي السياسي والحقوقي، يسائل السلطة، ويبحث عن مكان عادل في خارطة المستقبل.