* عام البون…عندما أصبحت الأرض مقابل الخبز
يقف الجزائريون الآن وأمام أعينهم مشاهد مر عليها 132 عاما.. تتناقلها ذاكرة الأجداد والأحفاد الرافضة للنسيان، فالجزائري بالكامل كان يستنزف على يد الاحتلال الفرنسي الذي حاول طمس هويته.
لا يتوقف الجزائريون عن مطالبة فرنسا بـ “الاعتراف والاعتذار والتعويض” عن جرائمها بحق الشعب الجزائري، من بينها عمليات طمس الهوية ونهب وتعذيب وقتل وتجارب نووية واستغلال ثروات الشعب بشكل إذلالي جعل صاحب الأرض خادما للمستعمر الظالم.
وسنويًا، ترتفع وتيرة تلك المطالبات مع حلول ذكرى انطلاق ثورة التحرير، مطلع نوفمبر، خاصة في ظل رفض رسمي فرنسي للإقرار بتلك الجرائم، وعدم حسم ملفات عديدة عالقة بين البلدين.
هكذا نهبت فرنسا خيرات الجزائر
فرضت السلطات الاستعمارية الفرنسية نهبا ممنهجا لخيرات وثروات الجزائر طيلة 132 سنة من الاحتلال، عبر قرارات وإجراءات وقوانين.
واحتلت فرنسا مدينة الجزائر في 05 جويلية 1830، واستغرقت السيطرة على كامل البلد نحو 70 سنة. وشهدت مرحلة السيطرة على عموم الجزائر عمليات تهجير للسكان الأصليين، ومصادرة أراضيهم الزراعية الخصبة، وحرمانهم من أبسط الحقوق بحسب مؤرخين.
وحسب روايات مؤرخين جزائريين، فإن أرض بلدهم ظلت تغذي فرنسا بكل ما لذ وطاب، كما أن اكتشاف النفط عام 1956 واستغلال مناجم الذهب والحديد والفحم ومختلف المعادن كانت في خدمة الاقتصاد الفرنسي انطلاقا من أرض الجزائر.
تأميم الأوقاف الإسلامية وإلحاقها بالأملاك الفرنسية
ويؤكد الباحث وأستاذ تاريخ الجزائر بكلية الإعلام بجامعة الجزائر عيسى بن عقون أن السلطات الاستعمارية أصدرت قرارا في 23 مارس 1843 بمصادرة الأوقاف الإسلامية في عموم الجزائر وإلحاقها بإدارة الأملاك الفرنسية.
وحسب الباحث، فإن قرار السلطات الفرنسية جاء معاكسا لمعاهدة استسلام الداي حسين في 5 جويلية 1830، التي نصت على عدم المساس بالمقدسات الإسلامية واعتبار الأوقاف حرمة مقدسة لا يجوز التعدي عليها واحترام أملاك الجزائريين.
وأضاف بن عقون أن الاستعمار الفرنسي بعد أن دخل الجزائر اكتشف الثروة المتمثلة في الأوقاف (مدارس، مساجد، زوايا وجامعات تقليدية آنذاك)، والتي توفر مصدر تمويل مهم ولذلك قرر تأميمها.
قانون الأهالي لتفقير الجزائريين
وبحلول عام 1871 أصدرت فرنسا الاستعمارية أحد أهم قوانينها الذي كان له الأثر البالغ حسب مؤرخين على نهب خيرات وثروات الجزائر، وهو قانون الأهالي “السكان الأصليين”.
ومن أهم ما نص عليه القانون هو جعل سكان الجزائر الأصليين تابعين للمستعمرين سواء كانوا فرنسيين أو أوروبيين.
كما نجم عن القانون تبعات أخرى وهي تمليك الأراضي الزراعية الخصبة للمعمرين الأوروبيين الذين قدموا من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومالطا.
هذا القانون جعل الجزائريين يعملون لدى المعمرين وفق ما يعرف بـ “الخماس”، ومعناه أن الجزائري لا يأخذ من محصول الأرض التي يخدمها هو سوى خمس الإنتاج.
وحتى تنقلات الجزائريين الذين صار يطلق عليهم تسمية “الأهالي” أصبحت مقننة وتقتضي تراخيص من السلطات الاستعمارية.
وفي شهادة سابقة لـعمار بن تومي، وهو محامي جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قادت الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي (1954/1962)، قدمها في 30 أكتوبر 2012 بجريدة “الشعب”، قال فيها إن قانون الأهالي كان هدفه تكبيل الجزائريين وفسح المجال أمام المستوطنين (المعمرين) لاستغلال ونهب ثروات البلد.
واستمر العمل بقانون الأهالي وما نجم عنه من استغلال ونهب للثروات ومصادرة الأراضي الزراعية وطرد وتهجير السكان الأصليين إلى الأراضي القاحلة والجبلية، إلى غاية العام 1945.
كما أصدرت السلطات الاستعمارية في الجزائر قانونا عام 1870 يعرف بـ “قانون كريميو” فصلت بموجبه الجزائريين (السكان الأصليين) عن اليهود الذين منحتهم الجنسية الفرنسية، ونجم عنه امتيازات عديدة للجالية اليهودية، خصوصا في المجال التجاري.
وذكر باحثون ومؤرخون في مؤتمر عقد بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الاسلامية بقسنطينة في 21 فيفري 2021، أن ما يزيد عن 110 طن من الكنوز الجزائرية من ذهب وفضة وأزيد من 180 مليار دولار تتواجد في فرنسا.
وذكر المؤرخ فيصل بن سعيد تليلاني في ذات المؤتمر وفق ما نقلته صحيفة “الخبر” الجزائرية (خاصة) في 21 فيفري 2021، أن البشرية لم تعرف استعمارا بشعا وبربريا مثل الاستعمار الفرنسي.
وأضاف تليلاني أن الاستعمار الفرنسي اغتصب ثروات الجزائر وسخرها لخدمة المعمرين (المستوطنين) وحرم الجزائريين أصحاب الأرض من خيراتها.
وحسب تليلاني، فإن فرنسا الاستعمارية وبمجرد احتلال الجزائر نهبت الكثير من الخيرات على غرار الأموال والكنوز المسلوبة من قصر الإمارة بمنطقة “باب الجديد” بالعاصمة.
وذكر الباحث والمؤرخ فيصل بن سعيد تليلاني أن المراجع التاريخية تشير إلى وجود 7 أطنان و312 كيلوغراما من الذهب، و108 طن و704 كيلوغرام من الفضة وسبائك من الذهب الخالص، الأحجار الكريمة والملابس الفاخرة وغيرها من المدخرات الجزائرية والنقود الأجنبية.
ووفقه، فإن ما تم نهبه عند احتلال الجزائر يعادل 80 مليون فرنك، بحساب ذلك الزمن وقد تتعدى اليوم، حسب تقدير تليلاني، 80 مليار دولار، وبعض الفرنسيين قدّروها بـ180 مليار دولار.
مصادرة أراضي الجزائريين لتعزيز التواجد الفرنسي
يعتبر موضوع الاستيطان الفرنسي من المواضيع الهامة في تاريخ الحركة الاستعمارية وتتجسد تلك الأهمية في النقاط التالية:
– عملت الإدارة الاستعمارية على تجسيد وتكريس الاستعمار الاستيطاني بالقوة والعنف وحتى بالقانون.
– كانت الأرض المسألة الأولى التي مسّها وهددها الاستعمار الاستيطاني، لذلك كان الحصول على الأراضي وسيلة لكسب الشرعية في البقاء، فكانت وسائل الاستيطان هي ممارسة العنف، الإكراه، الإغراء، الشراء، الطرد، وحتى المراسيم والقوانين.
– قام الاستيطان الفرنسي على الهجرة الأوروبية التي عرفت أنواعا ومشارب متعددة، فكانت دائمة ومؤقتة، فردية وجماعية، قانونية وغير قانونية، فظهر المستوطنون إلى جانب الجزائريين أصحاب الأرض الشرعيين. ومن تم صارت العلاقة بين الاستعمار والسكان المحليين علاقة إبادة ونفي وكفاح.
– قامت السياسة الاستيطانية على أساس إحلال المستوطنين محل الجزائريين، فتحول كثير منهم إلى عمال خماسين أو عمال في مصانع المستوطنين يعملون على تنمية ثروات المعمرين.
الأرض جوهر المسألة الاستيطانية
لم يرتبط نجاح المشروع الاستيطاني بالاعتماد فقط على العامل الديمغرافي بتشجيع الهجرة الأوروبية إلى الجزائر لأن بدون احتياطات عقارية لن يجدي نفعا، وبالتالي فإن الأرض هي جوهر المسألة الاستيطانية، لهذا عملت الإدارة الاستعمارية من أجل إنجاح سياستها الاستيطانية على تهيئة الوضع الذي ستتم فيه عملية التوطين، فكانت الأرض المسألة الأولى التي مسّها وهددها الاستيطان الفرنسي.
والأرض قضية كل فرد وجماعة وأمة، فهي مسألة حياة أو موت، لأنّها مصدر العيش والبقاء، ولطالما حافظ الشعب الجزائري على أرضه ورد الخطر عنها من كل عدو محتل أراد أن يغتصبها منه على مدى التاريخ وأثبت حبه وتمسّكه بها، فأقهر المستعمر بأعظم ثورة سجلت في تاريخ الجزائر ثورة نوفمبر 1954 التي توجت بالنّصر والاستقلال.
وقائع عام من المجاعة والبؤس
“عام البو والشر والديباركمان” هي تسميات كثيرة لسنة عصيبة ألمت بالجزائريين إبان فترة الاستعمار الفرنسي.. جوع وأمراض وكوارث طبيعية جعلت هذه الفترة الأسوأ في تاريخ تواجد فرنسا في الجزائر.. وأصبح يُضرب بها المثل للحال المتعثرة والفقر.
فبعد انهزام فرنسا في بداية الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي جعلت هذه الأخيرة مستعمراتها، كالجزائر والمغرب، جبهة خلفية لإنتاج المواد الغذائية، فأتت هذه السياسة الاستنزافية للمحاصيل على الأخضر واليابس، بالإضافة إلى الجفاف الذي عم الجزائر خلال عدة سنوات..
سنوات قحط أتت على ثلاثة أرباع المحصول… فجفت عروق الأرض وقل الزاد.. هذا الوضع اضطر الكثير من الفلاحين إلى ترك أراضيهم مقابل ما يسدون به جوع عائلاتهم، وساقوا قطعانهم إلى الأسواق لبيعها بأبخس الأثمان، وأجبرت السلطة الاستعمارية آخرين على ترك أراضيهم قسرا وتركها للأجانب، وفي المقابل عرضت عليهم حصة شهرية قدرها ثلاثة كيلوغرامات من القمح والشعير.. وحسب بعض الروايات، فإن الناس حينها كانوا يهرعون من المناطق السهبية ومن الجنوب هربا من الجوع باتجاه المناطق التلية، أملا في العثور على الشعير والقمح، لكن أهل التل أنفسهم كانوا يعانون الجوع، وأصبحت المواد الأساسية تباع في السوق السوداء بأضعاف سعرها… كان الناس يلجؤون إلى حيل لسد الجوع وكانوا يستبدلون القهوة بالحمص والسكر بالتمر اليابس وكانوا يسترون عوراتهم بأكياس المواد الغذائية المصنوعة بالخيشة.
.. وسرعان ما تدهورت أحوال الناس ومسهم الجوع والفاقة فمات الآلاف جوعا، ولحقهم الآلاف بعدها من جراء المرض… فتناثرت الأجساد الهزيلة هنا وهناك بأسمال بالية وبخطى متثاقلة.
أما في المدن، ففرضت فرنسا نظاما استهلاكيا جديدا عرف بالتموين بالبون، وكان الجزائريون يقتنون المواد الاستهلاكية بتقديم أوراق “البون”. وأصل التسمية من الكلمة الفرنسية bon أو وصل خاص. وكان الجزائريون آنذاك ينطقونه “البو”. وقد عرف هذا البون بلونه الأخضر، كان يمنح لكل رب عائلة يقدمه كل أسبوع للحصول على مؤونة أو ما كان يسمى بالعامية “رافيطايمون”… وكان هذا البون يتكون من سكر وزيت وشاي وقهوة وبعض الألبسة.
ولم تكن هذه المؤونة الشحيحة كافية لسد أفواه الملايين من الناس الجائعة، فاضطر الكثيرون إلى أكل الأعشاب وجذور النباتات البرية مثل القرنينة والترفاس والعرعار والترقودة وقرين جدي والتالمة وكل الطرائد البرية حتى الجرذان حسب شهادات البعض…
وتفشى من وراء هذه المجاعة مرض التيفوس، الذي أصبح بعدها وباء أودى بحياة المئات من الناس وعانى الناس خاصة الصغار من سوء التغذية، وأصبحت القرحة ومشاكل الجهاز الهضمي ملازمة لكل وجبة غير سائغة… وتصادفت أحداث كثيرة مع المجاعة المتفشية مثل الزلزال، مما زاد الوضع سوءا..
أهازيج الجوع
كثيرة هي الأشعار الشعبية التي تحكي عن هذه الفترة العصيبة، منها ما ترويه الجدات عن أمهاتهن اللواتي عايشن الجوع فغنين: “مانشتيش الشرّ راني جربتو وعلى ما دارت فيّا… ترقودة والعرعار قرين جدي عليه طيّبت إيديّا”. وأخريات هتفن: “الله الله يالرقدة يُذكرك بالخير، الطاجين رقـد وتهنّى والحلاّب يحير، الترقودة قمح العولة والبلوط شعير…” وأهازيج تذكر الحرب العالمية الثانية وأدولف هيتلر: “أنتِ عزيّج كذّابة وهتلير وَيْكت شفتيه… الحمص ما نحّ الدوخة والطين صوبنتي بيه… قعدتي حمرة عريانة حتى بالخيش لبستيه…”
محاولات فاشلة لمحو عار المستعمر
حاولت فرنسا أن تخفي هذا الجزء الأسود من تاريخها الملطخ بدماء الأبرياء وراحت تروج لصورة المنقذ، فانتشرت صورهم وهم يوزعون الأكل على الأنديجان كما يسمونهم، ولكن هيهات أن يمحو مستدمر ذاكرة شعب صقله الجوع وقوّت الفاقة شكيمته… وعلى بطون خاوية قامت الثورة التحريرية، فابتلت العروق المروية بالحرية وسكنت القلوب المفعمة بحب الوطن.. هذه الجزائر التي لا يقهرها ظمأ ولا تهزمها مخمصة.
لمياء بن دعاس
