مداشر أُحرقت، قرى أُبيدت وملايين اُستشهدوا في سبيل الأرض

ثورة الفاتح نوفمبر الكبرى.. لأن الحرية تُؤخذ ولا تُعطى

ثورة الفاتح نوفمبر الكبرى.. لأن الحرية تُؤخذ ولا تُعطى
  • الشعب دعم الجيش في مقاومته للاستعمار رغم المعاناة

 

قدم الشعب الجزائري منذ اندلاع ثورة التحرير المظفرة تضحيات كبيرة لا يمكن سردها في مقال أو الحديث عنها في بلاطوهات تلفزيونية، حيث جمعت الثورة التحريرية التي انطلقت شرارتها في أول نوفمبر 1954 كافة الشعب الجزائري الذي كان له الدافع الأكبر في نصرة المجاهدين ونجاح الثورة.

تجلت تضحيات الشعب الجزائري في التفافه حول جيش وجبهة التحرير الوطني، خاصة وأن سياسة القهر التي مارستها فرنسا أدت إلى نتائج وخيمة على الشعب الجزائري وتسببت في تدهور أوضاعه المعيشية فتفشى الفقر، الأمية، البطالة والأمراض الخطيرة والفتاكة، وهي سياسة أرادت بها فرنسا كسر شوكة الثورة وعزل الشعب عن المجاهدين لكنها تفاجأت بعكس ذلك، فالرغبة في الحرية واسترجاع الوطن جعلت الشعب يلتحم مع ثورته ويلتف حول قادتها، وزادت في مظاهر تلاحم وتآزر الشعب الجزائري مع الثوار من خلال تقديم الأرواح والأموال، والأهم مساهمته في إفشال كل مخططات العدو.

 

الثورة الجزائرية… لأن الحرية تؤخذ ولا تعطى

تجاوب الشعب الجزائري مع السياسة الفرنسية في جميع الجهات بدون استثناء، لا سيما في المناطق التي عرفت ضغطًا فرنسيًا مكثفًا لتحويل اتجاهها الوطني، فلم يكن للإعانات ولا المساعدات التي تقدمها الإرساليات التبشيرية ولا للتعليم الذي وفرته المدرسة الفرنسية، ولا للمستوطنين الفرنسيين، ولا للمهاجرين الجزائريين الذين تنقلهم السلطات للعمل في فرنسا أثر في فرنسة الشعب الجزائري، وهو ما دفع مخططي السياسة الفرنسية إلى اتهام الجزائريين بأنهم شعب يعيش على هامش التاريخ.

وحارب الشعب سياسة التفرقة الطائفية برفع شعار “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا والجزائر وطننا” الذي أعلنه العالِم والمجاهد الجليل عبد الحميد بن باديس، ورأى المصلحون من أبناء الجزائر في ظل فشل حركات المقاومة، أن العمل يجب أن يقوم في -البداية- على التربية الإسلامية لتكوين قاعدة صلبة يمكن أن يقوم عليها الجهاد في المستقبل، مع عدم اهمال الصراع السياسي، فتمّ تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بزعامة ابن باديس، التي افتتحت مدارس لتعليم ناشئة المسلمين، وهاجم ابن باديس الفرنسيين وظلمهم، وشنع على عملية التجنس بالفرنسية وعدّها ذوبانًا للشخصية الجزائرية المسلمة، وطالب بتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأثمرت هذه الجهود عن تكوين نواة قوية من الشباب المسلم يمكن الاعتماد عليها في تربية جيل قادم.

وعلى الصعيد السياسي، بدأ الجزائريون المقاومة من خلال التنظيم السياسي الذي خاض هذا الميدان بأفكار متعددة، فمنهم من يرى أن الغاية هي المساواة بالفرنسيين، ومنهم الشيوعيون، والوطنيون المتعصبون، وظهرت عدة تنظيمات سياسية منها: حزب نجم شمال إفريقيا بزعامة مصالي الحاج الذي عرف بعد ذلك بحزب الشعب الجزائري، وبعدها تحول إلى الكفاح المسلح وكان هذا التحول تحولاً ليس إلا من أجل الحرية والاستقلال، إذ أدركوا أنه لا سبيل لتحقيق أهدافهم سوى العمل المسلح والثورة الشاملة، فانصرف الجهد إلى جمع الأسلحة وإعداد الخلايا السرية الثورية بتوجيه وتمويل ودعم عربي حتى يحين الوقت المناسب لتفجير الصراع المسلح وبتضافر الجهود على جميع الأصعدة والصمود أمام هذا الاحتلال الغاشم تمكن الجزائريون رغم إمكانياتهم الضعيفة من هزم العدو وإخراجه من الجزائر إيمانا منهم بأن الحرية تؤخذ ولا تعطى.

 

“جمبري بيغار” طريقة تعذيب ابتكرها ضابط فرنسي

خلال ثورة التحرير الجزائرية، وبشكل خاص في معركة مدينة الجزائر سنة 1957، كانت قوات الاحتلال الفرنسي تتفنن بتعذيب الجزائريين، واحدة من تلك الطرق عرفت باسم “جمبري بيغار” وهي طريقة تعذيب وموت وحشية ابتكرها الجنرال الفرنسي “مارسيل بيغار” ضد أفراد “جبهة وجيش التحرير الوطني الجزائري”.

تتمثّل تلك الطريقة في غرس أرجل الضحايا داخل قوالب إسمنتية وتركهم على هذه الحال حتى يجف الإسمنت، وبعدها يُحملون في طائرات عسكرية ويُرمون في عرض البحر الأبيض المتوسط، حيث يموتون غرقاً.

وقد كشفت رئيسة الهيئة الجزائرية لمناهضة الفكر الاستعماري، المحامية فاطمة الزهراء بن براهم، أن بحارة وصيادين جزائريين عثروا على هذه القوالب الإسمنتية وبداخلها آثار أقدام.

وكانت تلك الطريقة، جزءاً من الحرب النفسية ضد خلايا الفدائيين لجبهة التحرير الجزائرية في العاصمة ولم يستثنِ بيغار منها أحداً، شملت الشيوخ والنساء وحتى الأطفال وأحياناً كان يربط مع الضحية زوجته وأطفاله معاً قبل رميهم من الطائرة.

 

حقول الموت… ذكريات ومآسي ألغام المستعمر الفرنسي

ما تزال ذكريات مآسي ألغام المستعمر الفرنسي عالقة في أذهان ضحايا “عبوات الموت” على مستوى المناطق الحدودية بولاية النعامة التي اجتازها خطا شار وموريس والتي تعكس جرائم وحشية لا تمحى.

وتعكس أمثلة عديدة لأشخاص تعرضوا لإعاقات مختلفة وتشوهات بمجرد اختراقهم لحقول الموت وأصبحوا في مواجهة شظايا تلك العبوات المتطايرة من تحت أقدامهم، حجم المعاناة والأحزان التي لازمت السكان القاطنين بالمناطق الحدودية.

وكانت تلك الألغام المزروعة بالشريط الحدودي بولاية النعامة عنوانا لمأساة أخرى من مخلفات المستعمر الفرنسي بعد أن أخذت تحصد ضحاياها حتى ما بعد الاستقلال.

ويؤكد سكان بعض القرى والمناطق النائية وخصوصا عبر بلديات النعامة ومكمن بن عمار وتيوت وجنين بورزق وعين الصفراء أن الألغام التي زرعها المستعمر الفرنسي عزلت عدة مناطق أصبحت لعدة سنوات كمساحات محرمة وخصوصا على مستوى المراعي السهبية والشريط الحدودي.

وأبرز الضحايا الذين تعرضوا لإصابات وتشوهات جراء انفجار لغم استعماري أثناء مزاولتهم لنشاطاتهم اليومية وأغلبهم من رعاة الأغنام والبدو الرحل، أنهم عايشوا كابوس هذه الألغام لفترة طويلة وأصبح شبحا مفزعا أرق حياتهم.

ويستفيد نحو 170 شخصا من ضحايا هذه الألغام المضادة للأشخاص بولاية النعامة من مساعدات اجتماعية مباشرة في شكل منح شهرية، إضافة إلى الرعاية الطبية والاجتماعية التي تقدم لهم كحصولهم المجاني على تركيب الأجهزة والأعضاء الاصطناعية والعلاج بواسطة التنشيط الحركي وغيرها، وفقا لما أبرزته مديرية المجاهدين.

وقد ألحقت بهم تلك العبوات عاهات جسمانية مستديمة ومآسي اجتماعية، وهو ما أكده فراجي 57 سنة، من منطقة فوناسة ببلدية جنين بورزق، قائلا “تعرضت لهذا الحادث منتصف الثمانينيات حينما كنت أساعد جدي في نشاط الرعي وقد بترت رجلي وأستعمل الآن رجلا اصطناعية”.

وتبقى تلك الألغام المزروعة خلال الحقبة الاستعمارية بأراضي الولاية وصمة عار وشاهدا للأجيال القادمة بأن هذه المساحات التي تحولت اليوم إلى مشاريع فلاحية واستثمارية كانت بالأمس عنوانا للموت والإعاقة.

وأكد الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ دردور سمير من عين الصفراء (النعامة) أن “فرنسا الاستعمارية تتحمل المسؤولية الكاملة بخصوص ما ارتكبته من جرائم وحشية وزرع تلك الألغام التي كانت خطة واضحة المعالم لبلوغ عزل للثورة التحريرية”.

 

“تاكوشت” قرية أحرقتها فرنسا الاستعمارية بسبب مساندتها للثورة

تعتبر قرية “تاكوشت”، إحدى أكبر قرى بوزقان بتيزي وزو، من بين القرى المتعددة بالولاية التاريخية الثالثة التي قامت فرنسا الاستعمارية بحرقها وتدميرها بالكامل، خلال حرب التحرير الوطنية.

جيش فرنسا الاستعمارية، الذي لم يتمكن من قمع مساندة سكان تاكوشت للثورة والسيطرة على مقاومة القرويين، الذين اصطفوا جلهم وراء الثورة من خلال تعزيز صفوف جيش التحرير الوطني

وتوفير المعلومات والمأكل والمبيت وكل الوسائل المادية الضرورية للمجاهدين، قام بمعاقبة السكان من خلال طردهم من منازلهم وحرق قريتهم بالكامل.

ولا يزال شيوخ القرية يتذكرون إلى يومنا هذا، ذلك اليوم المشؤوم الذي أجبروا فيه على مغادرة منازلهم وهم لا يحملون معهم سوى القليل من الأغراض، ليعيشوا بعدها حياة الرحل في القرى المجاورة.

وروى أحد الشيوخ أن أمر المغادرة جاءهم يوم 17 جوان 1958، ثم منحت لهم مهلة 36 ساعة لإجلاء القرية. وأردف يقول “لقد هربنا كلنا إلى جهة معينة، في اتجاه القرى المجاورة حيث استضافنا الأقارب إلى غاية الاستقلال”.

كما لا يزال القرويون يتذكرون “الطائرات الصفراء” التي كانت تحلق فوق رؤوسهم تجاه منازلهم التي غادروها، ولم ينسوا أبدا أصوات القنابل المدوية وهي تتهاطل على قريتهم وعلى أحيائهم الخالية على عروشها. كما احتفظت ذاكرتهم بتلك الصور المؤلمة لأعمدة الدخان والنيران المتصاعدة من احتراق بيوتهم، شاهدة على مدى الدمار والخراب الذي لحق بـ “تاكوشت”.

وكانت هذه العملية عقاب فرنسا لـ “جريمة” القرويين المتمثلة في استضافة المجاهدين ومساندتهم. ويعتبر بيت عائلة يحوي من بين أهم منازل القرية التي شكلت مأوى للمجاهدين خلال حرب التحرير الوطنية.

وأكد أهل القرية أن “المجاهدين كانوا يأوون إلى هذا البيت بعد كل عملية لهم في الضواحي وكانوا يجدون فيه الراحة والطعام. وكثيرا ما كان هذا البيت ملجأ للعقيد عميروش ورجاله”.

كما تم بنفس البيت أيضا سجن أحد جنود الجيش الفرنسي، الذي تم اعتقاله خلال معركة كبيرة بالمكان المسمى “تانعيمت” بقرية آث فراش ببوزقان، حيث تكبدت فرنسا خسائر معتبرة على يد عناصر جيش التحرير الوطني، قبل نقل السجين إلى مكان آخر، وفق نفس الشهادات.

ويتعلق الأمر بالعريف بول بونوم الذي تم اعتقاله خلال المعركة المذكورة يوم 30 أوت 1957، على مستوى الطريق الرابطة ما بين بوزقان وحورة بالمكان المسمى “مفترق طرق الجنرالات”، وذلك خلال كمين تم نصبه لموكب للسرية الرابعة التابعة للكتيبة الـ 27 لمقاتلي جبال الألب، من طرف حوالي مائة مجاهدين مزودين بأسلحة أوتوماتيكية وقاذفات القنابل اليدوية كانوا منتصبين على جانبي الطريق التي كان سيعبرها العدو.

وحسب نفس الشهادات، فإن المجاهدين قد اعتقلوا خلال هذه المعركة جنديا فرنسيا، لم يكونوا يعرفون من يكون، وكان الجيش الفرنسي قد أرسل وقتها دوريات للبحث عنه، ولم يفلح في جلب أي معلومات عنه لدى السكان الذين بقوا أوفياء للثورة والتزموا بالصمت بالرغم من كل تهديدات المستعمر.

لمياء. ب