-
عملية بناء المناهج لا بد أن تكون بإشراف مباشر من المختصين
اختتمت، الخميس، فعاليات الجلسة الختامية للملتقى الوطني الثالث الذي نظمه الاتحاد الوطني لأولياء التلاميذ، تحت شعار “البرامج التعليمية – الواقع وضرورة المعالجة”، وذلك بالتعاون مع مخبر علم النفس العصبي والمعرفي والاجتماعي.
وقد تميز هذا الملتقى بمشاركة نخبة من الأساتذة والخبراء والمختصين في الشأن التربوي، وخلص إلى جملة من التوصيات المفصلة التي تم عرضها في تقرير لجنة التوصيات، برئاسة الأستاذ الدكتور بشير جاري. واستهلت اللجنة تقريرها، بالتنويه بالجهود المبذولة من طرف الدولة الجزائرية في سبيل دعم التعليم المجاني في جميع مراحله، مبرزة في الوقت نفسه المساعي التي تقودها وزارة التربية الوطنية من خلال فتح ورشات لمراجعة البرامج والمناهج الدراسية. وأكدت اللجنة أن هذه المبادرات تعكس إرادة حقيقية لإصلاح المنظومة التربوية، إلا أنها تحتاج إلى تعزيز وتوجيه مدروس قائم على أسس علمية صلبة. واعتبرت اللجنة، أن الخطوة الأولى نحو إصلاح حقيقي تبدأ بإجراء دراسة علمية شاملة للمناهج التعليمية المعتمدة، على أن توكل هذه الدراسة إلى هيئة مستقلة، مثل المخابر الجامعية، لضمان الحيادية والدقة العلمية. ومن خلال هذه الدراسة، يمكن تحليل واقع البرامج والمناهج القائمة، والكشف عن أوجه القصور والخلل، تمهيدا لبناء مناهج جديدة تكون مستندة على نتائج هذه البحوث لا على اجتهادات إدارية أو ظرفية. وشددت التوصيات، على أن عملية بناء المناهج لا بد أن تكون بإشراف مباشر من المختصين، لا سيما أولئك الذين يشتغلون في مجالات تعليمية المواد المختلفة، إلى جانب خبراء في علم نفس الطفل والمراهق، وعلم النفس التربوي، وعلم الاجتماع التربوي. هؤلاء وحدهم، تقول اللجنة، يمتلكون الأدوات العلمية والعملية التي تؤهلهم لتقديم مناهج تتماشى مع طبيعة المتعلمين ومع المرحلة التنموية التي يعيشونها. ولضمان فعالية هذه المناهج، اقترحت اللجنة أن يتم تجريبها أولا في مؤسسات تعليمية مختارة، تعمل كمخابر ميدانية لرصد التفاعل الحقيقي مع المضامين الجديدة. ومن خلال تقييم نتائج هذا التطبيق التجريبي، يمكن إدخال التعديلات المناسبة بشكل دوري، قبل أن تعمم على المستوى الوطني. هذا المنهج التجريبي – التطويري يعد، بحسب اللجنة، أحد الضمانات الأساسية لنجاح أي إصلاح تربوي. وفي محور تكوين المعلمين، رأت اللجنة أن من الضروري تنظيم دورات تكوينية معمقة ومسبقة حول البرامج الجديدة، سواء تم تطبيقها بشكل جزئي أو كلي، لأن نجاح أي برنامج تعليمي يبقى مرهونا بمدى كفاءة من يقوم بتدريسه. كما دعت إلى استحداث آليات بيداغوجية فعالة لمعالجة ضعف التحصيل لدى التلاميذ، وذلك من خلال تنظيم حصص علاجية أثناء العطل وخارج أوقات الدراسة، مع إعادة تقييم مكتسبات التلاميذ بصفة دورية، وجعل نتائج هذا التقييم معيارا للانتقال إلى المستوى الأعلى، وليس الزمن المدرسي فقط. وطرحت التوصيات كذلك، مقترحا بإعادة النظر في طريقة تدريس التلاميذ في المرحلة الابتدائية، من خلال اعتماد التخصص، بحيث يتولى أساتذة المواد العلمية تدريس هذه المواد فقط، وينطبق الأمر ذاته على المواد الأدبية. ويرى معدو التقرير أن هذا التوجه من شأنه أن يرفع من مستوى الأداء التربوي داخل الأقسام، ويمنح المعلم القدرة على التعمق في مادته وتطوير طرق تدريسها. كما لم تغفل اللجنة أهمية مراجعة مضامين الكتب المدرسية، ودعت إلى التدخل العاجل لمراجعة وتصحيح ما قد يتعارض منها مع القيم المجتمعية الجزائرية، وكذا إزالة الأخطاء العلمية أو اللغوية التي ما تزال تتكرر في بعض المقررات، وذلك لضمان تقديم محتوى معرفي سليم ومحترم لهوية المجتمع. وعلى مستوى السياسات التربوية، دعت اللجنة إلى تشكيل مجموعات عمل متعددة التخصصات، تضم خبراء في التربية، وعلم النفس، والبيئة، والمجتمع، تكون مهمتها تقييم البرامج من مختلف الزوايا، وقياس مدى تلاؤمها مع قدرات التلاميذ واحتياجاتهم النفسية والعقلية والمعرفية. واقترحت اللجنة في هذا السياق التخفيف من الضغط النفسي على التلاميذ وأوليائهم، سواء خلال الامتحانات العادية أو الرسمية، من خلال إعادة النظر في أنظمة التقييم، بما في ذلك إلغاء نظام النقاط في الطور الابتدائي، وتعويضه بوسائل تقييم بديلة تشجع على تنمية المهارات وتثمين المجهودات، بدلا من التركيز فقط على النتائج العددية. وتطرقت التوصيات أيضا، إلى ضرورة تكوين المعلمين، خاصة أولئك الذين لم يتلقوا تأهيلا تربويا من المدارس العليا المتخصصة، ليتمكنوا من الإلمام بطرائق التدريس الحديثة والنماذج البيداغوجية الفعّالة. كما أوصت اللجنة باعتماد نموذج “الاستجابة للتدخل”، كإطار عملي للكشف المبكر عن صعوبات التعلم لدى التلاميذ، والتدخل الفوري لعلاجها قبل تفاقمها، مما يعزز فرص النجاح المدرسي للجميع. من جهة أخرى، شددت التوصيات على أهمية تقليص عدد المواد المكملة في الطور الابتدائي، والتركيز على المواد الأساسية التي تشكل جوهر التعلم في هذه المرحلة المفصلية. ويرى المختصون، أن هذا التخفيف يساهم في تقليل التشتت الذهني لدى الطفل ويمنحه فرصة أوسع للاستيعاب والتركيز. وفي الختام، طرحت اللجنة مجموعة من العناوين المقترحة للملتقى الوطني الرابع، والمقرر تنظيمه في العام القادم 2026، ومن أبرزها: “التكوين التربوي والمعرفي والنفسي للمعلمين والمفتشين”، و”واقع التعليم الخاص وأكاديميات الدعم المدرسي”، إلى جانب “واقع ذوي الاحتياجات الخاصة والدمج التربوي”. لقد أبرزت هذه التوصيات رؤية واضحة وعميقة لإصلاح المنظومة التعليمية في الجزائر، مؤكدة أن أي تغيير فعلي لا بد أن ينبني على أسس علمية دقيقة، وعلى شراكة حقيقية بين المؤسسات التربوية والبحثية وأولياء الأمور، لضمان مستقبل أفضل للتلميذ الجزائري ولمدرسة وطنية قوية وحديثة.
محمد بوسلامة