ترأس رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وزير الدفاع الوطني، السيد عبد المجيد تبون، الخميس، مراسم تخرّج دفعات جديدة بالأكاديمية العسكرية لشرشال “الرئيس الراحل هواري بومدين”.
هذا الحدث، الذي تكرر عبر السنوات، جاء مشحونا هذه السنة برسائل سياسية وأمنية، داخلية وخارجية، تعكس تموقع الجزائر في عالم مضطرب، وتصميمها على بناء قوة صلبة عنوانها: “جيش جزائري عصري ومتأهب”. بمجرد أن ظهر رئيس الجمهورية في ساحة الأكاديمية العسكرية لشرشال، وأمام عدسات الإعلام الوطني والدولي، اتّضح أن المشهد أكبر من مجرد تفتيش للتشكيلات العسكرية أو تقليد للرتب. الكلمات المنتقاة، العروض العسكرية، رمزية المكان، توقيت الحدث، وحتى اسم الدفعة المتخرجة… كلها عناصر كانت مدروسة بعناية لتبعث برسائل مباشرة وغير مباشرة للداخل والخارج.
تقاطع مع ذكرى الاستقلال
مشهد الاستعراض العسكري وحفل تخرج دفعات الأكاديمية العسكرية لشرشال تقاطع مع الذكرى الـ63 لاسترجاع السيادة الوطنية في لحظة رمزية عميقة لا تخلو من رسائل سياسية وأمنية مدروسة. ففي الوقت الذي يحيي فيه الجزائريون ذكرى استقلالهم من الاستعمار الفرنسي، يأتي هذا الاستعراض ليُجسد “الاستقلال الثاني” الذي طالما تحدّث عنه الرئيس عبد المجيد تبون، لا بوصفه مجرد استرجاع للأرض، وإنما استكمالا لبناء السيادة الوطنية الكاملة، وعلى رأسها السيادة الدفاعية. تخرج الضباط الشباب في هذه الذكرى يعد إعلانا صريحا، بأن “الجزائر التي تحررت بالبندقية، تُحصّن نفسها اليوم بالعلم والسلاح والتكوين”، في مشهد يعكس الاستمرارية لا القطيعة، ويُبرز جيشا وُلد من رحم الثورة، لكنه تطور ليكون حامي السيادة في ظل دولة عصرية. هذا الربط بين الذاكرة والنظرة الاستراتيجية للمستقبل، يحمل دلالات بالغة في ظل التحولات الإقليمية والدولية، حيث أصبحت الجيوش تُقاس بعتادها، وبقدرتها على تمثل روح أمتها واستيعاب تحديات عصرها. الاستقلال الذي انتزع بالدماء، يُصان اليوم بعقيدة جاهزية جديدة، تظهر في استعراضات جوية معقدة، ومهارات بحرية متقدمة، وانضباط ميداني لدفعات جديدة تَعِد بأن تكون امتدادا لبطولات الأمس، ودرعا حقيقيا ضد أي تهديد محتمل. الاستعراض العسكري وحفل التخرج حول ذكرى الاستقلال إلى “مناسبة تجديد” لعقد الوفاء بين الجيش والشعب، بين التاريخ والمستقبل، بين السيادة والشرف، في رسالة لا تخفى على الأعداء ولا تُخطئها أنظار الداخل والخارج: جيش الجزائر حاضر كما كان دائما، بالجاهزية والعقيدة والقَسم.
الجيش الوطني الشعبي.. امتداد حيّ لعقيدة التحرير
وفي مشهد رمزي ذي دلالات عميقة، وقف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، القائد الأعلى للقوات المسلحة، عند المعلم التذكاري للرئيس الراحل هواري بومدين، وقرأ الفاتحة ترحما على روحه، قبل أن يُشرف على حفل تخرج دفعات جديدة بالأكاديمية العسكرية التي تحمل اسمه. هذا التوقف هو رسالة قوية، تؤكد أن الجيش الوطني الشعبي لا يزال وفيا لروحه الأصلية التي تأسست في عمق ثورة التحرير المجيدة. تسمية الدفعة المتخرجة باسم المجاهد العميد حسين بن حديد، وهو أحد رموز جيش التحرير، كانت تعبيرا واضحا عن استمرارية “العقيدة التحريرية” داخل المؤسسة العسكرية، التي ترى في نفسها جهازا أمنيا ووريثا شرعيا لقيم نوفمبر ووصايا الشهداء. هذا البعد التاريخي أضفى على الحدث بعدا وجدانيا ووحدويا، يعمّق الشرعية الشعبية للجيش ويحصّنه من كل محاولات التشكيك أو الاختراق. فالجيش الذي لا ينسى جذوره هو جيش يظل متمسكًا بمبادئه مهما اختلفت السياقات السياسية أو تبدّلت التحديات. ومثل هذه الخطوات تعزز الثقة بين المؤسسة العسكرية والشعب، وتعيد التأكيد على أن أمن البلاد ووحدتها عقيدة قبل أن تكون وظيفة.
تلاحم.. صورة موحدة ورسالة رادعة
وفي ساحة العلم بالأكاديمية العسكرية لشرشال، كان استعراض التخرج لحظة سياسية حملت في طياتها رسالة وطنية واضحة: التلاحم بين الرئاسة والجيش الوطني الشعبي هو صمّام أمان الجزائر في زمن التقلبات الجيوسياسية. حضور الرئيس عبد المجيد تبون على رأس الحفل، إلى جانب الفريق أول السعيد شنقريحة، الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع الوطني ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، جسّد هذه الوحدة في أبهى صورها، لتقول الدولة لأعدائها: “الرئاسة والمؤسسة العسكرية جبهة واحدة في خدمة الوطن”. اللافت في الكلمة التي ألقاها الفريق أول شنقريحة خلال المراسم، أنها لم تكتف بالإشادة بتكوين الضباط أو بتقليد الرتب، بل حملت إشارات سياسية واضحة: “نُجدد العهد أمامكم وأمام السيد رئيس الجمهورية على مواصلة بذل المزيد من الجهود في سبيل تعزيز قدرات جيشنا وتطوير منظومته الدفاعية”، وهي جملة تختزل عمق الانسجام بين قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية، وتؤكد أن مشاريع التطوير الدفاعي والاستراتيجي تمر عبر توافق سياسي – عسكري صلب. هذه الصورة الموحدة بين تبون وشنقريحة تتعزز عاما بعد عام، لتشكل الرد الأفصح على من حاولوا سابقا الرهان على شرخ أو فجوة بين المؤسستين. ويكفي أن يتابع الداخل والخارج صور تقليد الرتب وتوزيع الشهادات، ولقطات التفاعل الحي بين الرئيس وقادة الجيش، حتى يدرك أن ما يجري هو تجديد ضمني لعقيدة “الشعب – الجيش – الدولة” التي تأسست منذ ثورة التحرير، وتتجدد الآن بأدوات أكثر حداثة وصلابة. الفريق أول شنقريحة أشار في مناسبات سابقة إلى أهمية تعزيز الجبهة الداخلية، بقوله: “نُدرك تمام الإدراك حساسية المرحلة التي تمر بها المنطقة والعالم أجمع، وندعو إلى توحيد الصفوف وتحقيق المزيد من التلاحم بين مختلف فئات الشعب”. وهذا التصريح يوجه – بشكل غير مباشر – تحذيرا للمتربصين بالوحدة الوطنية، مفاده أن الجيش لا ينفصل عن قيادة الدولة، بل يشكّل أحد أذرعها الاستراتيجية في الردع والاستقرار.
جيش قوي ومتطور.. رسالة ميدانية في زمن الشكوك
وبعد استعراض دقيق ومتناغم لمهارات الطلبة الضباط في الأكاديمية العسكرية لشرشال، بدا جليا أن الرسالة كانت لتأكيد معادلة استراتيجية مفادها أن الجيش الوطني الشعبي هو اليوم أقوى، أكثر تطورا، وأعلى جاهزية. العرض كان تنفيذا ميدانيا لخطة تواصلية واضحة، تُبرز للقاصي والداني أن الجزائر تمتلك مؤسسة عسكرية تُراكم القوة والمعرفة، وتتمتع بمنظومة تكوينية حديثة، قادرة على إعداد أجيال من الإطارات العسكرية وفق معايير احترافية. التمارين المتنوعة، من الكاراتيه والكونغ فو إلى اجتياز الحواجز النارية والعروض القتالية بالسلاح وبدونه، ثمّ التمارين البيانية في البر والجو والبحر، كلها جسّدت تطور قدرات الجيش الجزائري في كل أبعاده القتالية واللوجستية. وقد كان لافتا ذلك التناغم بين مختلف مكونات القوات المسلحة، ما يعكس عملا تدريبيا طويل المدى، ومنظومة قيادة مرنة وفعالة، قادرة على إخراج صورة قتالية منسجمة توصل فكرة واحدة: “جيش جاهز”. ولعل ما يُميز هذا الجيش اليوم هو انتقاله من منطق الرد الفوري إلى منطق الردع الاستباقي، وهو ما يُفهم من استعراض تقنيات القتال الحضري، وتزويد الطائرات بالوقود في الجو، والإنزال البحري لتحرير رهائن. كل ذلك يعكس انتقال المؤسسة العسكرية من الرد على المخاطر إلى الاستعداد الدائم لمواجهتها قبل وقوعها، وهو ما يتماشى مع التحولات الحديثة في العقيدة القتالية. وبهذا الاستعراض، وجّهت الجزائر رسالة واضحة: إن جيشها لا يقف عند “الجاهزية الكلاسيكية”، ويستثمر في التكوين العلمي، ويواكب التطور التكنولوجي، ويعتمد مقاربة مندمجة تجمع بين البعد القتالي والبعد السيادي. إنها دعوة غير مباشرة للمتربصين: “هذا مجرد تمرين، لكننا جاهزون إن تطلب الأمر أكثر من ذلك”.
رسائل الردع والجاهزية في زمن التوترات الإقليمية والدولية
وفي ظل ما يشهده العالم من اضطرابات أمنية متصاعدة، ووسط منطقة ملتهبة تعج بالصراعات والمخاطر، كان الاستعراض العسكري بالأكاديمية العسكرية لشرشال استعراضا للجاهزية والردع، بلغة بصرية لا تقبل التأويل. العروض القتالية والتمارين النارية الميدانية، إلى جانب استعراضات القوات الجوية وتمارين “تحرير الرهائن من البحر”، رسمت أمام أعين الداخل والخارج صورة جيش محترف، مستعد لأي طارئ، ومتماهٍ مع متطلبات المرحلة. لقد حرص المنظمون، على أن تعكس فقرات الحفل المهارات القتالية المتقدمة للمتخرجين، والتكامل العملياتي بين مختلف القوات البرية والجوية والبحرية، في رسالة ضمنية مفادها أن الجيش الوطني الشعبي يتأهب ويتطور لمواجهة سيناريوهات متعددة. فاختيار تمارين كـ”تحرير الرهائن” و”اجتياز الحواجز النارية” و”التزويد بالوقود جوا” لم يكن عشوائيًا، وإنما يتناغم مع طبيعة التهديدات المعقدة، سواء كانت إرهابية أو هجينة أو حتى تقليدية. هذا الحضور القوي للجاهزية العسكرية، يعكس وعي المؤسسة العسكرية بالسياق الجيوسياسي الراهن، حيث تسود حالة من الغموض في العلاقات الإقليمية والدولية، وتتعاظم المخاطر في الساحل الإفريقي، وتتصاعد التوترات شرق المتوسط، ويتكرر استهداف السيادة الوطنية عبر أدوات غير تقليدية. ومن هذا المنطلق، فإن الرسالة الموجهة من شرشال إلى كل من يهمه الأمر، هي أن الجزائر “لن تُفاجأ، ولن تُؤخذ على حين غرة”.
رهان على التكوين العلمي والعسكري النوعي كما برز في حفل التخرج بالأكاديمية العسكرية لشرشال تركيز لافت على تكوين الضباط في المستويات العليا، خاصة من خلال تخريج دفعة جديدة من ضباط دورة الماستر، واستعراض مشاريعهم العلمية ضمن معرض أنجزه الطلبة بأنفسهم. هذا الاهتمام يقرأ من عمق الرؤية التي تتبناها المؤسسة العسكرية: تكوين نخبة عسكرية مسلّحة بالعلم بقدر ما هي مسلحة بالسلاح. عبارات مثل “إطارات متسلحة بالعلم والروح الوطنية”، التي وردت في الكلمة الرسمية لقائد الأكاديمية، تكشف فلسفة تكوينية تدمج البعدين: الأكاديمي والوطني. فالقوة في العقيدة العسكرية الجزائرية لا تُختزل في تفوق ناري أو معدات حديثة فقط، وإنما تشمل تكوين عقول قادرة على التفكير، التحليل، واتخاذ القرار في بيئة إقليمية ودولية معقدة. ولهذا، فإن ضباط الماستر هم نواة قيادة مستقبلية تُعدّ بعناية. هذا الاستثمار في المورد البشري، يتناغم مع تأكيد الفريق أول السعيد شنقريحة، على أن “التكوين الجيد للمورد البشري هو حجر الزاوية لبناء جيش قوي ومهاب الجانب”. وهي استراتيجية واضحة الملامح، تضع الإنسان الكفء في قلب الرؤية الدفاعية الجزائرية، في وقت أصبحت فيه المعرفة والتكنولوجيا عناصر حاسمة في أي مواجهة عسكرية أو أمنية. إن حضور رئيس الجمهورية للمعرض العلمي ومتابعته لما أنجزه الطلبة، يعكس بدوره دعما سياسيا لهذا التوجه، ويؤكد أن الرئاسة تراهن بدورها على جيش ذكي لا يكتفي بالجاهزية القتالية، ويسعى إلى التميز المعرفي. وفي عالم تتغير فيه طبيعة الصراعات، يصبح امتلاك ضباط يجيدون قيادة الطائرات كما يجيدون قراءة الخرائط الذهنية للأعداء، مسألة أمن قومي لا جدال فيها. في ظل الأوضاع الجيوسياسية المعقدة إقليميا ودوليا، شكّل حفل التخرج العسكري بشرشال استعراضا شاملا لقوة الجزائر وتلاحم مؤسساتها، حيث التقى القرار السياسي بالرؤية الاستراتيجية العسكرية في مشهد مهيب حمل رسائل واضحة للداخل والخارج. فالرئيس تبون، إلى جانب الفريق أول شنقريحة، جسّدا صورة الجزائر الموحدة، القوية، والمتيقظة، التي تبني جاهزيتها عبر العتاد والاستعراض، وأيضا من خلال التكوين النوعي للإطارات الشابة، المزودة بالعلم والانضباط والولاء. إنها رسالة أن الجيش الجزائري، بوصفه امتدادا لجيش التحرير، لا يزال في قلب المشروع الوطني، حاضرا برجاله وعقيدته وعتاده لحماية السيادة ومواجهة كل التهديدات.
م. ع
