مثلها مثل كل المدن الجزائرية العريقة، تبقى قسنطينة بسكانها وفية لتراثها وتقاليدها، وهو ما نراه من خلال مهرجانات في مختلف المجالات، آخرها مهرجان تقطير الورد والزهر الذي تزينت به سيرتا وحوّل شوارعها إلى لوحات تراثية رائعة زادتها جمالا موسيقى فرق العيساوة والهدوة وغيرها.
ويُعد ماء الزهر أو ماء الورد المقطر من أهم عادات العائلات القسنطينية التي لا يزال بعضها متمسكين بها ومحافظين عليها، باعتبارها عادة متوارثة عن الأجداد، نظرا لأهميتها في الحياة اليومية، حيث يُستعمل الماء المقطر في مجالات عدة، خاصة خلال تحضير بعض الأطباق والأكلات التقليدية التي تزين المائدة القسنطينية في الأفراح والمناسبات الهامة، على غرار طاجين العين وشباح السفرة والرفيس وكذا المشلوش، وحتى بعض الحلويات التقليدية المشهورة على غرار البقلاوة وطمينة اللوز والقطايف. كما يضفي ماء الزهر نكهة خاصة على القهوة عند تناولها في الصباح الباكر أو بعد العصر.
وتلجأ العديد من العائلات بقسنطينة إلى التداوي بالماء المقطر من أزهار أشجار الحمضيات وخاصة النارنج أو البرتقال المر، وكذا المقطر من أزهار الورد، خاصة ذات اللون الوردي، حيث يتم وضع ماء الورد داخل العين لعلاج بعض الالتهابات التي تصيب مقلة العين على غرار مرض الرمد. كما يُستعمل ماء الزهر في تخفيض حرارة الجسم خلال الإصابات الجرثومية ونزلات البرد وحتى لفحات الشمس، بالإضافة إلى استعمالات في مجال التجميل وتنظيف البشرة.
ومن أشهر أنواع الزهور المستعملة في عملية تقطير الورد، هي الورود المعروفة بلونها الوردي الفاتح ورائحتها المنعشة، أما بالنسبة لتقطير ماء الزهر فتستعمل فيها أزهار البرتقال والليمون والتفاح والسفرجل وغيرها من الحوامض.
وتتم عملية تقطير ماء الورد والزهر، من خلال وعاء نحاسي يتكون من جزءين “قدر والكسكاس”، حيث يتم وضع كبة الأزهار أو الورود في الجزء العلوي فيما يتم وضع الماء في القدر، والذي يوضع على النار لمدة لا تقل عن أربع ساعات، حتى تتم عملية تبخر الماء وتحوله إلى قطرات ماء معطرة على حسب نوعية الورود أو الزهور.
وتقول عائشة في هذا الصدد، إنها تعشق الورود ورائحتها، مؤكدة أن أغلب بيوت القسنطينيات لا تخلو من روائح ونسمات الورود والأزهار مع حلول كل فصل ربيع، مشيرة إلى أن عملية تقطير ماء الزهر والورد تعتبر واحدة من بين أعرق الموروثات والتقاليد الجميلة بمدينة الجسور المعلقة.
وأشارت المتحدثة إلى أن القسنطينيات يقدسن عادة وضع القليل من ماء الزهر أو الورد المقطر في إبريق القهوة، قائلة “سينية القهوة القسنطينية، لا تخلو من مرش ماء الورد أو ماء الزهر المقطر في المنازل”.
وأضافت قائلة، إن أول خطوة يقوم بها المشرفون على عمليات التقطير، هي عند اقتناء القطار، وتبدأ بدهنه بالمسك ثم يتم وضع القليل من الملح فيه، ليتم بعدها رش كمية من السكر عليه، ليتم بعد ذلك، كما تقول المتحدثة، وضع القطار داخل الماء ليلة كاملة، ليتم بعدها مسحه بقطعة من القماش وبعد ذلك يترك حتى يجف، وهكذا يمكن كما تقول عائشة، “أن يقوم المشرفون على هذه العملية، بعملية التقطير دون أي مشاكل”.
وتقول الأساطير إن تاريخ عملية تقطير الورد والزهر يعود إلى سنة 1620 ميلادية، إبان حكم الدولة العثمانية، حيث أهدى أحد الصينيين شجرة الزهر لإحدى عائلات المدينة خلال تلك الفترة، وهي عائلة “كوتشوكالي” وأصلها تركي، فقام أفرادها بغرس تلك الشجرة بمنطقة الحامة (منطقة زراعية تبعد بحوالي 8 كلم عن مدينة قسنطينة، وكانت تصنف من بين أحسن المناطق الزراعية في العالم، في عهد الدولة العثمانية)، ومع مرور الزمن انتشرت بشكل واسع في بساتين لا تزال عامرة إلى اليوم، وهناك من الأشجار التي يزيد عمرها عن الـ 260 سنة.
ب-ص
