بينت الأرقام المقدمة من طرف مختصين في مجال الصحة، أن الجزائر تحصي أسبوعيا ظهور 17 حالة جديدة لمرضى التوحد، في ظل تهميش القائمين على الصحة لهذه الفئة وندرة المراكز الخاصة بالتكفل بها، والتي
قدّرها المختصون بـ 36 مركزا عبر الوطن على الأقل.
وتشير نفس الإحصائيات إلى أن عدد المصابين بالتوحد المصرح بهم في الجزائر يبلغ 80 ألف حالة، بعدما كان في سنة 2004 لا يتجاوز 40 ألف حالة، بغض النظر عن الحالات الأخرى غير المصرح بها والتي تبقى في خانة المجهول، وهذا حسب إحصاءات قدمها البروفيسور محمود ولد طالب، رئيس مصلحة الطب العقلي لدى الأطفال بمستشفى دريد حسين في الجزائر العاصمة، والتي تشير إلى أن المراكز والمؤسسات المخصصة للتكفل بهذه الفئة عبر الوطن غير كافية وغير قادرة على استيعاب العدد الكبير لمرضى التوحد من أطفال ومراهقين وراشدين.
تحيي الجزائر، اليوم، على غرار دول العالم، اليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد، وهي خطوة إيجابية ومهمة تستمد أهميتها من التزايد المضطرد في عدد مرضى التوحد، وجاء الاحتفال هذه السنة تحت شعار “تمكين الفتيات والنساء المصابات بالتوحد”، وهو شعار داعم للفتيات والنساء المصابات به، وحاثا لهن على ممارسة حياتهن بشكل طبيعي وداعما لهن على الاندماج في المجتمع والانخراط في التعليم ومواجهة الصعوبات.
السلوك الفظ واضطرابات النطق أهم أعراضه
تبقى أعراض التوحد ومسبباته مجهولة لحد الساعة، الشيء الذي يزيد من آلام هذه الفئة التي تبقى تعاني في صمت. أمام قلة البحوث التي تكشف أعراض وعلاج هذا الداء، مرض التوحد هو اضطراب عصبي لا يعرف مصدره، وهو إعاقة نمائية يتم تشخيصها في معظم الأحيان خلال الثلاث السنوات الأولى من عمر الطفل، وعادة ما تؤثر هذه الإعاقة على وظائف المخ، لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن عدد المصابين في الجزائر، وما يعرف أن إعاقة التوحد تصيب الذكور أكثر من الإناث، وتصيب الأسر من جميع الطبقات الاجتماعية ومن جميع الأجناس والأعراق. لا توجد اختبارات طبية لتشخيص حالات التوحد، وعادة ما يعتمد التشخيص الدقيق الوحيد على الملاحظة المباشرة لسلوك الفرد وعلاقاته بالآخرين ومعدلات نموه. ولا مانع من اللجوء في بعض الأحيان إلى الاختبارات الطبية لأن هناك العديد من الأنماط السلوكية يشترك فيها التوحد مع الاضطرابات السلوكية الأخرى. ولا يكفى السلوك بمفرده وإنما مراحل نمو الطفل الطبيعية هامة للغاية، فقد يعانى أطفال التوحد من أعراض تتمثل في تخلف عقلي، اضطراب في التصرفات، مشاكل في السمع وحتى السلوك الفظ، لا شك أن التوحد من أحدث أنواع الإعاقة التي تم اكتشافها وأكثرها صعوبة من حيث التشخيص، مما يؤدي إلى عدم معرفة الحالة في وقت مبكر أو تشخيصها بشكل خاطئ، وبالتالي تجاهل مرض التوحد في المراحل المبكرة من عمر الطفل. ومما يزيد من صعوبة التشخيص أن كثيراً من السلوك التوحدي يوجد في اضطرابات أخرى مثل اضطرابات النطق والكلام وغيرها.
لذا ينصح الأطباء بضرورة تقييم حالة الطفل من قبل فريق متكامل من تخصصات مختلفة مثل أخصائي أعصاب، أخصائي نفسي، أخصائي علاج لغة ونطق وطبيب أطفال، أخصائي تعليمي وأخصائي علاج مهني.
أعراض التوحد قد تظهر من خلال التواصل الاجتماعي بعد 36 شهرا
تظهر أعراض التوحد من خلال عدة صفات، ومن أبرزها تأخر في تطور المهارات اللفظية وغير اللفظية واضطراب السلوك والتفاعل، وخاصة أثناء التواصل الاجتماعي، لكن الأعراض الحقيقية لهذا الداء، حسب ما يشخصها الأطباء، تظهر من خلال التواصل الاجتماعي بعد 36 شهرا، إذ يقول الأستاذ “فراس. ز”، مختص في علم النفس العيادي، إن “الطفل التوحدي لا يكتسب التعليم بنفسه، ولكن عن طريق التلقين، فهو غريب التخيل، روتيني، لا يعبر بالكلام ولكن غالبا ما تراه يحتج بأسلوبه العدواني الناتج عن الغضب الطفولي أو الصبياني”. ومن جملة الأعراض التي تظهر على الطفل التوحدي، يقول المختص النفساني، إنها تتمثل في صعوبة التواصل الاجتماعي سواء كان الاتصال لفظيا أو بصريا، ويحدث خلل في الاستجابات، فيستجيب المصاب للأشياء أكثر من استجابته للأشخاص، كما أن الروتين يعد ميزة الشخص المصاب بالتوحد حيث يكرّر حركات معينة دون كلل أو ملل، ويضطرب دائما من محاولات التغيير في حياته.
الأبحاث المتواصلة تؤكد صعوبة المرض
أما عن أحدث ما توصلت إليه الأبحاث التي مازالت مستمرة عن هذا المرض، فيؤكد النفساني محمد تبري، أن مرض التوحد من الإعاقات التطورية الصعبة بالنسبة للطفل والتي تدفعه إلى صعوبة التفاعل الاجتماعي والتأخر في النمو الإدراكي وفي الكلام وفي تطور اللغة، وقد لا يبدأ المصاب بالكلام قبل خمس سنوات، بالإضافة إلى البطء في المهارات التعليمية، كما تعاني نسبة كبيرة من المرضى من حالات الصرع ومن الحركات الزائدة وعدم القدرة علي التركيز والاستيعاب إضافة إلى حقيقة هامة أخرى عن مرض التوحد، وهي أن أكبر نسبة من حالات الإصابة تكون بين الذكور.
ومن بين أهم أعراض المرض، أشار الدكتور بوطاف، أستاذ بكلية علم النفس بجامعة بوزريعة، إلى أن الطفل يكون مفرط الحركة ولا يستطيع التواصل مع البشر، كما نجده محبا لتدوير الأجسام واللعب بها، ومن أكثر ما يميز المصاب بالتوحد أيضا أنه يطيل البقاء واللعب الانفرادي بأسلوب متحفظ وفاتر المشاعر، بحسب أستاذ علم النفس، وأشارت دراسات أخرى إلى أن هذا المرض منتشر بنسبة طفل واحد في كل 250 طفلا وهي نسبة مخيفة بعض الشيء لا سيما أن هذا الداء يعتبر من الأمراض التي لا تلقى الصدى الإيجابي في أوساط أفراد المجتمع الذين لازالوا يعتبرون مرضى التوحد مجانين أو معاقين والبعض الآخر يجهل تماما المرض، بينما الحقيقة تختلف كثيرا، وتزيد الصعوبة على المرضى أكثر عندما يبلغون سن المراهقة.
الأسباب تبقى محل جدل وقد تختلف من بيئة إلى أخرى
أما عن الاسباب التي تبقى محل جدل كبير بين أهل الاختصاص، فلم يتم إلى حد الآن التوصل إلى نتائج مرضية، ففيما يخص الأسباب، تبقى نسبة حالات التوحد في ارتفاع مخيف سواء في الدول المتطورة أو السائرة في طريق النمو وحتى المتخلفة منها، إذ أن هناك العديد من الآراء المتضاربة، حسب ما ذهب إليه الأخصائي، فليس هناك سبب مقنع ورئيسي يسبّب التوحد، فهناك من يقول إن التواصل الاجتماعي قد يكون عائقا، ليتطور إلى درجة الانعزال البذيء ويبدأ تدريجيا داخل الأسرة ومع الأمهات خاصة اللواتي يتركن الأطفال أمام التلفاز لساعات طويلة ظنا منهن أنه سيتعلم اللغات منه، في حين أنه في غالب الأحيان يكون هناك استقبال بصري بحت وهذا ما يجعل الجانب اللفظي يتراجع تدريجيا، وحذّر مختصون في الوقت ذاته من بعض البرامج الخطيرة ومنها “شان ذي الشيب”، “توم وجيري”، لأن الطفل في فترة حرجة لاكتساب اللغة، وهذا ما يجهله الآباء، في حين يمكن للفئات العمرية التي تعدت مرحلة اكتساب اللغة أن تشاهد مثل هذه البرامج التي يكون مفعولها منخفضا جدا مقارنة بالفئات العمرية الأولى. وفي ذات السياق، أكد الأخصائي النفساني من خلال تجربته التي قضاها في دول الخليج، أن حالات التوحد التي ارتفعت بنسبة كبيرة قد ترجع للحروب والمواد الكيماوية، أما عن الجزائر، فارتفع العدد المصرح به في سنة 2004 الى الضعف من 40000 حالة إلى 80000 حالة، فيما تبقى الحالات الأخرى غير المصرح بها في خانة المجهول، أما فيما يخص التشخيص، فيبدأ بدراسة الحالة المتكونة من عديد الأسئلة التي مرت بها الأم بداية من فترة الحمل إلى ما بعد الولادة، بالإضافة إلى التشخيص الأرطوفوني. فيما يبقى العديد من الأولياء في حيرة من أمرهم على فلذات أكبادهم، حيث زادت وضعية هذه الفئة في الجزائر تعقيدا بارتفاع عدد مرضى التوحد الذين يبقى مصيرهم مجهولا في ظل نقص الامكانيات والمعلومات الكافية عن هذا المرض الذي عجز أهل الاختصاص عن إيجاد تشخيص دقيق له.
الأولياء في حيرة على مستقبل أبنائهم وحتى التعامل معهم
من جهته، عبّر “عاشور .أ” عن حيرته التي طال أمدها بعد أن اكتشف أن أبناءه الثلاثة غير عاديين، حتى أنه لم يكن يتقبل الأمر بسهولة، خاصة أنهم كلهم مصابون بالتوحد، حيث أن ابنه الأكبر “ر. ك” لم يكتشف مرضه حتى سن السادسة بعد أن وجّهت لوالده ملاحظات من المدرسة، حول كيفية التواصل التي كان يتعامل بها مع أصدقائه وخاصة المعلمة، فاضطرت لاستدعاء الوالد الذي صدم بالأمر، ليبدأ رحلة البحث عن العلاج ومحاولة إنقاذ طفله قبل فوات الآوان في حين أنه يجهل صعوبة المرض، خاصة في ظل نقص الإمكانيات في بلادنا، ليكتشف مؤخرا أن أطفاله الآخرين يعانون نفس الحالة، ولم يتمكن المختصون من النجاح في تشخيص حالتهم، مما جعل الوالد يفكر في نقل أولاده للعلاج بالخارج. ومن جهة أخرى، تبقى السيدة “أ. ب” تعاني حالة هستيريا بسبب إصابة ابنها بالتوحد الذي لم تكتشفه إلا بعد انقضاء السنة الثالثة من عمره، معبرة أن حياتها دخلت نفقا مظلما بسبب ابنها، خصوصا وأنها لم تجد له منفذا صحيا تلجأ إليه كمحاولة لتأهيل طفلها، خاصة أنه أصبح محروما من كل شيء، حتى الدراسة واللعب والتمتع بالحياة، كما لم تخف الأم خوفها الشديد على مستقبل ابنها، خاصة وأنها لا تعرف التعامل معه عندما يحتاج إلى أي شيء، في حين تمنت الأم توفر مراكز متخصصة في هذا المجال.
هناك العديد من برامج التشخيص.. لكنها تختلف من منطقة إلى أخرى
من حيث البرامج التي يعتمدها مركز la porte du bien pour l autisme، أكد محمد تبري، على البرنامج الأول والأساسي وهو “ذو تيتش”، الذي يعتمد على لوحة النشاط التي تحتوي على صورة كل توحدي، وهذا البرنامج يساعد على التدريب اليومي الذي يمارسه الطفل، ليتطرق فيه إلى البرنامج اليومي، التاريخ، الجو، فطور الصباح وأشياء أخرى، فيصبح الطفل مبرمجا على معرفة الأشياء التي يريدها المصاب بالتوحد وهنا يكون الطفل قد تخطى مشكلة كبيرة في التواصل، فالطفل التوحدي يشاهد حسب الذاكرة البصرية، وقد حقّق هذا البرنامج نتائج إيجابية، حسب أهل الاختصاص. أما البرنامج الآخر، وهو “المكاتون”، الذي يعتبر برنامجا سلبيا باعتباره يعتمد على إشارات الصم البكم بشكل كبير وهذا ما يعاب عليه، إذ تلغى اللغة لدى الطفل بالإضافة إلى أنه يواجه مشكلة في التواصل مع الأشخاص العاديين، وبرنامج “أ. بي. أ”، فهو عبارة عن سلوك المنعكس الشرطي للمدرسة السلوكية، وبرنامج “الباك”، الذي يعتمد عليه بدرجة كبيرة هو عبارة عن برنامج للتواصل عن طريق الصور، وهو أشمل البرامج الأخرى، الذي يمكّن الطفل من تركيب جملة مفهومة عن طريق الصور، سواء النوم أو الأكل، فيما تعتبر نتائجه جد إيجابية. وقدّم الأخصائي بعض النصائح لأولياء مصابي التوحد، حيث يعتبر الماء مهما جدا من خلال تعليم الأطفال السباحة التي تمكنهم من الاحتكاك بأعضاء الجسم، بالإضافة إلى تنظيم خرجات مختلفة للأطفال، إلى جانب ركوب الخيل الذي برهنت الدراسات الأخيرة أن هناك تواصلا عالي المستوى بين الطفل التوحدي والأحصنة.