يقدم الروائي محمد ساري في عمله الجديد “نيران وادي عيزر” نظرة تاريخية عن مدينة شرشال، خلال السنوات الأخيرة للثورة التحريرية وأيام الاستقلال الأولى، من خلال الرجوع إلى سيرته الذاتية بهذه المدينة الساحلية، مسلطا الضوء من خلالها على تلك المرحلة الانتقالية الأكثر أهمية في تاريخ الجزائر المعاصر. ويتطرق هذا العمل الصادر مؤخرا باللغة العربية في 365 صفحة إلى طفولة الكاتب بإحدى القرى الجبلية الريفية المحيطة بمدينة شرشال بتيبازة، بمنطقة “وادي عيزر”، مقدما لوحة مصغرة عن الجزائر في السنوات الأخيرة للثورة والأيام الأولى للاستقلال ومتطرقا عبرها إلى أهم محطات حياته والذكريات التي بقيت راسخة في ذهنه.
يعود ساري في بداية عمله إلى طفولته التعيسة بقريته الريفية إبان الثورة وتهجيره وعائلته منها من طرف المستعمر الفرنسي الذي قنبل قريتهم ذات شتاء بالنابالم وأجبر ساكنيها على الهروب، شيوخا وأطفالا ورضعا ونساء، قاطعين “وادي عيزر” مرعوبين في عز جريانه العنيف، معتبرا أن تلك الأحداث المأساوية هي أكبر ما بقي راسخا في ذهنه من السنوات الأخيرة للثورة.
يصف ساري ذاك العبور الرهيب فيقول على لسان أمه: “إنه أرعب عبور لوادي عيزر عشته في حياتي، أبدا لم أحس بهلع يماثل هلع ذلك اليوم، انتابني رعب من أن تجرفني المياه الموحلة ولكن رعبي انصب خاصة على مصير أخيك الصغير رشيد الذي كنت أحمله على ظهري، أظن جازمة أنه لفظ أنفاسه الأخيرة مع صقيع برد ذلك العبور”.
تحمل الرواية مجموعة من الذاكرات، ذاكرة الكاتب وذاكرة أبويه بالخصوص، وتلخص كلها حياة البؤس والقهر التي كان يعيش في ظلها سكان الأرياف بشرشال وبقية المناطق الجزائرية، وكذا التهجير الجماعي والمحتشدات والتعذيب الذي سلطته فرنسا عليهم، والذين كانوا أكبر من عانى منه.
يصف الكاتب بؤس الجزائريين في ذلك الوقت على لسان أمه دائما فيقول: “كل ما أقوله لك ما هي إلا كلمات وأظنها عاجزة عن وصف مصائبنا، بؤسنا، الظلم الذي سلطته فرنسا علينا والإحساس بالذل والإهانة الذي كان يمزق كبرياءنا ونحن نجمع أمتعتنا للرحيل دون أن ندري إلى أين، كنا نعيش حياة فقر لا أراك الله ولا أراها لأحد لأنها لا تليق ببني البشر، كنا والبهائم على حد سواء (…) العراء والجوع، فلا يمكن لجيل الاستقلال أن يتصورها أبدا”.
غير أن الإيمان بالله والرغبة الجارفة في تحرير النفس والوطن كانت دائما أكبر من كل هذه الأوضاع. وفي هذا يقول الكاتب على لسان طبيب جزائري مسجون: “لن يكون أطفالنا رعاة وخماسين عند الكولون (…) سيذهبون إلى المدرسة وسيتخرجون منها معلمين ومهندسين وأطباء وإطارات (…) لن يكون هناك أغنياء وفقراء، سنضع حدا للظلم والاستغلال والبؤس، لن يجوع الجزائريون أبدا، ولن يعرفوا العراء والعوز”.
يعود الكاتب أيضا إلى الأيام الأخيرة للمستعمر الفرنسي والانتصارات الخارقة التي حققها المجاهدون في شرشال وغيرها من المناطق وخصوصا في الأرياف، إذ يقول على لسان كل المجاهدين: “كانت أياما خارقة للعادة لا تمحى من الذاكرة، الكلمات عاجزة عن وصف فرحتنا، فرحتي وفرحة إخواني الذين لم تحملهم الأرض بسعتها من كثرة الحركة والتنقل والكلام (…) وكذا فرحة السكان الذين استقبلونا مثل الأبطال، الرجال بالعناق الصادق الحار والنساء بالزغاريد المدوية التي كانت تملأ القلوب بهجة والعيون دموعا وتغرقنا جميعا في سعادة قصوى ما عشنا مثلها أبدا لا قبل ولا بعد”، ليختم عمله في الأخير بوصف الفرحة العارمة لسكان منطقة شرشال والجزائريين ككل بالاستقلال في 5 جويلية 1962.
وفي هذا العمل، الصادر عن دار “العين” المصرية، احتفاء أيضا بمدينة شرشال الكوسموبوليتية وتاريخها وجمال تضاريسها وتنوع سكانها وأيضا بقراها وبلداتها والمدن المجاورة لها.
ق/ ث