هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام ممن شهد بدرًا وأُحُدًا، وكان حامل اللواء فيها، وممن هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، أسلَمَ على يديه العشرات، وكان أوَّلَ سفير في الإسلام، ويقال: إنه أوَّلُ مَن صلَّى الجمعة في المدينة. إنه الشهيد البطل مصعبُ بن عمير بن هشام البدري القرشي العبدري، قال ابن سعد في طبقاته: لما بلَغ مصعبَ بن عمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، دخل عليه فأسلم وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفًا مِن أمِّه وقومه، وكان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا، وقد أسلم في السنوات الثلاث الأولى منِ الدعوة، قبْل أن يصدع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالدعوة، لكن الواشين مِن المشركين لمَّا علموا بإسلامه سارَعوا إلى الوشاية به عند أمِّه وقومه، قال تعالى “وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً” النساء: 89، فغضبوا عليه وحبسوه وأوثقوه، فلم يزل محبوسًا حتى فرَّ بِدِينِهِ وهاجر إلى الحبشة.
كان مصعب بن عمير فتَى مكةَ المدلَّل، وكانت أمُّه مِن أغنى أهل مكة، تكسوه أحسَن الثياب، وأجمل اللباس، وكان أعطرَ أهلِ مكة، فلما أسلم انخلعَ مِن ذلك كله، وأصابه مِن التعذيب والبلاء ما غيَّر لونه، وأنهك جسمه، قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى يُفَقِّهُ أهلَها ويُقرئهم القرآن، فكان منزله على أسعد بن زرارة، وكان إنما يسمَّى بالمدينة المقرئ، يُقال: إنه أوَّل مَن جمع الجمعة بالمدينة، وأسلم على يده أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما سيِّدا قومهما، وكفى بذلك فخرًا وأثرًا في الإسلام.
فارق مصعبُ بن عمير الدنيا شهيدًا، لم يخلف وراءه شيئًا مِن متاع الدنيا، ترَك المالَ والجاه والنعيم، وآثرَ ما عند الله، قال تعالى: ” مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ” النحل: 96؛ روى الإمام أحمد في مسنده مِن حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إنك لن تدَع شيئًا لله عز وجل، إلا بدَّلك الله به ما هو خير لك منه”.