ثمة سمات باتت مُلتصقة بالواقع الراهن، تشكّلت مع المتغيرات العالمية والمحلية، وصارت بالتالي مُحددة ومؤثرة في نقاط الارتكاز بالأعمال الأدبية للجيل الراهن من الروائيين العرب، ومن ثم فإن رؤية السرد الروائي العربي في إطار تلك التفاعلات الثقافية والتغيرات العالمية تُشكل أهمية كبرى في النقد العربي المُعاصر.
ومن هنا يولي الناقد الجزائري عبد القادر فيدوح في كتابه “تأويل المتخيل.. السرد والأنساق الثقافية” اهتماما أساسيا بالتعرف إلى الأنساق الثقافية، وتأثيرها في موضوعات وطرائق السرد الروائي العربي الراهن.
في تسعة فصول، جاء كتاب “تأويل المُتخيل” الصادر حديثا عن دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع. وبدأ الكاتب بتفصيل طبيعة الأنساق الثقافية المهيمنة في العصر الحالي على الفكر العربي في إطار التفاعلات والتغيرات العالمية، وتأثير الكولونيالية الجديدة على الثقافات المحلية، ومن ثم التوجهات والأفكار العربية.
وشرع في الفصول اللاحقة لتبيان تأثير تلك الأنساق على السرد الروائي العربي، دارجا عددا من الدراسات النقدية المُوسعة حول عدد من الأعمال السردية الحديثة مثل رواية “حكاية العربي الأخير” للروائي الجزائري واسيني الأعرج، ورواية “كولونيل الزبربر” للروائي الجزائري الحبيب السائح، و”حُبَّى” للروائية السعودية رجاء عالم.
ويوضّح الكاتب أن الرواية المعاصرة ترسم مقاربة جديدة للواقع بأشكال جديدة، تحضر فيها السلطة بجميع أنساقها ووظائفها المعبّرة عن القوة كمحور مهيمن على جميع الأصعدة بالنظر إلى العلاقة التي تجمع بين الرواية والواقع الجديد، ومن ثم فالرواية تقّدم نقدا بحجم ما تقدمه السلطة في علاقتها مع القوة، ومثلما يعيش واقعنا تفككا، تقابله الرواية بالسياق نفسه في شكل سرد مورد بمفاهيم ومصطلحات فرضتها معرفة الآخر، توثيقا للفعل السياسي المهيمن على مؤسساتنا الرسمية.
ويرى الكاتب أن سرديات الحقبة الأخيرة فقدت ثقة المتلقي الحصيف فيما كان عليها أن تمنحه من خصوصية لمواجهة سرديات الآخر، إذ يجسد السرد الجديد في منجزه الوجود الفعلي لمنظومة العالم الجديد في ثقافته، منحازا إلى تمثيل معايير العولمة وعدم تقديم أي تمثيل لثقافة الأطراف، وهو ما يستوجب من الرؤية السردية في إبداعنا العربي إعادة النظر في الكثير من السرديات الناجزة نظير فقدها الكتابة النزيهة في تناولها موضوعات لا تعكس جوهر هويتنا الخالصة.
ويشير إلى أن حقيقة ما وصل إليه إبداع الجيل الجديد عليل من حيث تركيبة الموضوعات التي تتناسب مع ثقافة الهدف، وفق ما يمليه واقعنا الجديد، الداعي إلى تحقيق الخلاص من براثن التبعية. وهكذا يصبح السرد لدى الجيل الجديد داعما لمنظومة السرديات الغربية. وكما كانت الرواية الواقعية مسخرة للواقع الإيدولوجي الفجّ فإن سرد العولمة في نتاجنا الإبداعي جاء ليكون صورة معبرة عن العناصر المؤسسة لهذه العولمة، أو بالأحرى انعكاسا لعللها واستثمارا لموضوعاتها الموردة إلى ثقافة الأطراف.
وارتبطت الرواية الجديدة في معظمها بطرح ظاهرة لبّ العدم وجوهر الحرمان في زمن العنف المستفحل في طويتنا وفي كياننا الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وصارت معظم الروايات تعبر عن تشخيص حالة الواقع العربي المنتشي بالألم والمستيقظ بالأسى بالنظر إلى ما يستفزه من مظاهر، وكان لأسلوب العنف من القوة الكولونيالية الجديدة أثره في الرواية المعاصرة.
ويرصد الكاتب العديد من الأمثلة لروايات عربية اتخذت من العنف فضاء له، ففي رواية “حكاية العربي الأخير” لواسيني الأعرج نجد محاكاة لمجريات أحداث العالم العربي اليوم، كذلك فإن رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد السعداوي تخلق عالما سرديا واقعيا، يسرد بطلها علاقة الذات مع الآخر الباحث عن قيم أصيلة في عالم متدهور.
ويوضح الكاتب أن السرديات العربية الحديثة أظهرت أسلوبا جديدا من السرد يظهر الصراع من خلاله على أشده بين الهويات المتباينة، ويُشكّل قطبه الأساس مناهضة الآخر ومواجهة مجتلباته من الصيغ المدمرة الناعمة والمد الثقافوي في افتتانه بتفصيل ثقافة جديدة وتفننه فيها، ولأن الرواية لدى الجيل الجديد قد مالت إلى هذا التوجه من الكتابة عن العنف والإرهاب فإن الانشغال بها مدفوع بالسؤال عن مصير الذات.
ب/ص