النبيُّ الوحيد الذي ذكر الله مدة دعوته لقومه هو نوح عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأنها مدة طويلة، والسؤال المهم هنا: كم آمن مع نوح خلال هذه المسيرة الحافلة، التي هي مثل مدة إقامة محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة أكثر من أربعين ضعفًا؟ الجواب: كانوا لا يزيدون على ثمانين رجلًا وامرأة. لو قسمنا عدد السنين على عدد من آمن، لكانت النتيجة في كل اثنتي عشرة سنة كان يؤمن معه شخص واحد، وربما آمنوا كلهم في أول مرحلة الدعوة. مع أن نوحًا قد آتاه الله من الحكمة والبيان والاجتهاد في النصح ما ذكره هو عن نفسه: ” قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ” نوح: 5 – 9. ولم تكن قلة مَنِ اتبعه عن تقصير منه، أو كسل منه، أو نقص حكمة منه، ولا قلة حنكة منه، ولا انعدام فَهمٍ منه للناس وواقعهم. بل كان والله في كل شيء في أعلى المراتب عقلًا وحكمةً وعلمًا، وقوة وشجاعة، واجتهادًا ونشاطًا، مع حُسْنِ أسلوب، وحُسْنِ سيرة فيهم. ومع هذا كله قُوبِلَ بالرفض لدعوته: ” وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ” هود: 40، والتهديد بالقتل ” لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ” الشعراء: 116؛ أي: يرجُمونه بالحجارة حتى يموت.
فصَبَرَ على ذلك لعل الله أن يهديهم أو يهدي بعضهم للإسلام؛ حتى أنزل الله عليه: “وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ” هود: 36، فلما عرف أن قومه لن يؤمنوا أبدًا، رفع شكواه إلى الله يدعو عليهم: ” فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ” القمر: 10، ” وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ” نوح: 26، وهذا إن دلَّ، فإنما يدل على صبره في الدعوة إلى الله، حتى أوحى الله إليه أن دعوتك لن تُدخِل منهم رجلًا واحدًا، ولا طفلًا، ولا امرأة، مهما مكثتَ فيهم من السنين والقرون. فحينها دعا عليهم بالهلاك، وحُقَّ له ذلك، وخاصة أنه قد علَّل هذا الدعاء؛ بقوله ” إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ” نوح: 27، فاستجاب الله لدعوته التي خرجت بعد يأسٍ من نوح من أن يُسلِمَ قومه أو بعضهم. وكيف لا يدعو عليهم ولا أمل فيهم يُرتجى؟ فاستُجيبت دعوته، فأهلك الله سائر أهل الكفر كبارًا وصغارًا بالطوفان العظيم الذي أغرق كل الأرض، حتى الحيوانات البرية كلها هلكت، فنجَّى الله نوحًا والذين معه. واستأنفت البشرية الحياة مرة أخرى، واستُؤنف تناسل الحيوانات مرة أخرى بعد أن بقِيَ منها من كلِّ زوجين اثنان. فعاش نوح بين هذه الأمة القليلة مُعلِّمًا مُطاعًا سيدًا، حتى توفَّاه الله تعالى. إذًا يا أخي المسلم، ابدأ في العمل لهذا الدين، وقدِّم في سبيل نصره ما تقدر عليه، ولا تنتظر النتيجة في هذه الحياة، فربما النتيجة ستكون بعد أجيال وأجيال؛ فقد يأتي من عرَف صبرك على الحق، فاقتدى بك، ونفع الله به خَلقًا كثيرًا. فلا تستَهِنْ بثباتك وبجهدك وبإخلاصك؛ فإنه زادٌ لغيرك، وإن لم تشعر بذلك.
من موقع وزارة الشؤون الدينية