لا يختلف اثنان على أن بروز وتألق الجزائريين في المسابقات الدولية لحفظ القرآن الكريم يعد معطى صريحا على تمسك الجزائري بدينه، إلى جانب المجهودات الحثيثة التي تبذلها الدولة عبر وزارة الشؤون الدينية والأوقاف وتمويلها للزوايا المنتشرة في ربوع الوطن لإنشاء المدارس القرآنية بالنظر إلى دورها البارز في ترسيخ مبادئ المرجعية الدينية الوطنية، حيث تم احصاء أزيد من 900 ألف تلميذ وتلميذة يزاولون دراستهم في هذا الشأن.
وتُعدُّ المدارس القرآنيّة منارة من منارات المجد في تاريخ أمَّتنا، وقلعة من قلاع الإسلام في ربوع جزائرنا الحبيبة، فتاريخها ناصعٌ بالمواقف المجيدة، وحاضرها خيرُ شاهد على أهدافها النَّبيلة، وإنجازاتها التي لا يُنكرها إلّا جاحد أو حاقد. فقد كان لها دور بارز أثناء الحقبة الاستدمارية في الحفاظ على الشَّخصيّة الجزائريّة العربيّة المسلمة، فأفشلت سياسات فرنسا في تنصير الشّعب الجزائريّ وتجهيله، حيث عنيت بتحفيظ أبناء الجزائر القرآن الكريم، وتعليمهم الحرفَ العربيّ، فحافظت على الإسلام والعربيّة في الجزائر.
وكانت للمدارس القرآنية جهود قبل ذلك في الدِّفاع عن حياض الجزائر في وجه الغزاة المعتدين، فشارك طلبة مازونة في ردّ العدوان الإسبانيّ على وهران، وشارك طلبة الزّوايا في المقاومات الشّعبية، وكان لأبناء الجزائر من خريجي المدارس الحرّة والكتاتيب القرآنيّة صفحات ناصعة أثناء الثّورة التّحريرية الكبرى، فكان منهم الجنود والقادة الذين ألحقوا بفرنسا الهزائم في ميدان الشّرف والبطولة.
إن ارتباط الجزائريِّين بالقرآن قديمٌ، وحبُّهم له أصيلٌ، وذلك منذ أن دخل الإسلام أرض الجزائر، حيث تعزّز الحبُّ عبر القرون، وتوثّق عبر الحقب، وقد تجلَّت مكانة القرآن الكريم في قلوب الجزائريِّين من خلال الأوقاف الكثيرة التي أوقفوها على بناء المساجد، والمدارس القرآنيّة، والكتاتيب، وبفضل دعمهم المالي السَّخي استمرَّ التّعليم القرآنيّ، ولم ينقطع في أيِّ لحظة من لحظات تاريخ الجزائر العصيب، واليوم نشهدُ نهضة قرآنيّة أسهم فيها المحسنون، فبنَوا المدارس والأبراج القرآنيّة الضّخمة، والمجهزة بكلِّ المرافق؛ للمساعدة على أداء رسالة نشر القرآن العظيم، وغرس قيمه في نفوس أبناء الجزائر. وهي السياسة التي أثمرت بتخرج مئات الآلاف من الحافظين والحافظات لكتاب الله في شتّى ربوع الوطن.
وفاعليّة المدارس القرآنيّة ودورها لا يقتصر على تحفيظ القرآن فحسب، بل تسهم إسهاماً فاعلا في استقامة النَّشء، وتهذيب أخلاقه، حيث تختفي كثير من الظّواهر والانحرافات السّلوكيّة لدى طلبة القرآن الكريم، وكذلك الأحياء التي تتواجد بها المدارس القرآنيّة، فهي بهذه الوظيفة خير معين على تحقيق الأمن الاجتماعيّ، ومحاربة الجريمة.
وتمتدُّ الآثار الكريمة والثِّمار الطيِّبة للمدارس القرآنيّة في المجال الدِّراسي، حيث كان لها الأثر في تحقيق التّفوّق الدِّراسي لأبنائنا، فأصحاب المعدّلات الكبرى في البكالوريا وغيرها من المراحل التّعليميّة من حملة كتاب الله تعالى، وما يُقال عن التّفوّق الدِّراسي يُقال عن التّفوّق في مناحي الحياة الأخرى، فحاملُ القرآن شخص إيجابيّ وفاعل ومثمرٌ، ينفع نفسه وأمّته.
إنَّ منافع المدارس القرآنيّة نتاج جهود عظيمة بُذلت من قبل القائمين على هذا التّعليم المبارك من معلِّمي القرآن وأساتذة التّعليم القرآني وقيّمين ومؤذّنين، وأئمّة وقائمين بالإمامة، ومفتّشين ومتطوّعين، رابطوا على هذا الثّغر، وأفنوا فيه الأوقات العزيزة، ولم ينتظروا جزاءً ولا شكوراً، واجتهدوا في تنويع وسائل التّعليم واختيار النّشاطات المرافقة والمناسبة لجيل اليوم؛ تشويقاً لهم وتحبيباً في هذه المدارس النّورانيّة، ليكون ارتباطهم بها طيلة أيّام السَّنة، وليس في المناسبات فقط مثل الشهر الكريم.
ب\ص