ما شد انتباهي في شخصية هذا البطل الرمز هو كثرة حديث العميد مسعود توابتي عن مناقبه، والملاحم الكشفية التي بقيت راسخة في ذهنه، فكان البطل قدوته وقائده في فوج الوداد ببولوغين، إنه الشهيد دراريني محمد، وبعد جهد وبحث عبر صفحات الأنترنت، تصادف أن التقيت بصورة للشهيد بيد أنني لم أكن واثقا منها، فقررت عرضها على الحاج توابتي بدون السؤال والنظر في ردة فعله، وهنا تيقنت ألا يعرف قدر الرجال إلا الرجال … قال توابتي بمجرد رؤية صورة هذا الشهيد حمو بوتليليس ثم استرجع وتأمل وقال … :”لا لا إنه الرايس دراريني … يا منير من أين أتيت بهاته الصورة …”
أسبق كلمة الرايس وهو لقب احترام ودلالة على تعظيم مكانة الرجل بطريقة تلقائية تدل على شدة حبه له ومكانته الكبيرة، وهو الذي تجلت له صفحات الماضي عبر صورة قدوته قائلا رغم مرور السنون وتعاقب الأزمنة، إلا أن آخر عهد له معه كان في رحلة نظمها لهم وهم فرقة جوالة يومها إلى أعالي الشريعة، ليغيب ذكره بعدها وليلتحق برفاق الكفاح بالجبال، وهناك يزّف إلى ربّه شهيدا عريس الجنان.
أبصر النور مع أولى نسمات صيف 1928 في السادس عشر من شهر جوان ببولوغين في أسرة عانت ويلات الاستعمار وأثقل الاملاق كاهلهم، فكان الأب المعيل الوحيد، وهو الذي جعل مهنة مساعد البناء مصدر قوته، درس الفتى محمد بمدرسة ساروي بالقصبة وتحصل على الشهادة الابتدائية، ورغم صغر سنه إلا أن الظرف الذي عايشه والأحداث التي عاصرها جعلته يلتحق سريعا بحزب الشعب الجزائري ويكون أحد مؤسسي فوج الوداد الكشفي ببولوغين رفقة مراد بوقشورة وآخرين، وهناك بالكشافة رسم دراريني خريطة الطريق للعديد من الشباب الذين حملوا مشعل الحرية وإعلاء راية الجزائر على عاتقهم، وسرعان ما يلتحق بالفريق الوطني للكشافة ويكون عضوا بالقيادة مسؤولا وطنيا على فرقة الجوالة رفقة محفوظ قداش وصالح لوانشي وغيرهم.
في سنة 1944 التحق محمد دراريني بمصلحة البريد بالعاصمة كعامل على آلة التلغراف، ليتحول مباشرة إلى العمل النقابي عبر نفس البوابة بريد الجزائر ليكون أحد أبرز النقابيين في تلك الفترة، ما دفع عددا من قادة الثورة إلى تكليفه وتعيينه كهمزة وصل والوسيط بين بن يوسف بن خدة وعبان رمضان وعيسات إيدير، فكان المسؤول على تنظيم اللقاء التاريخي الذي جمع هؤلاء القادة في السادس عشر فيفري سنة 1956 بمنزل المناضل بوعلام بورويبة، والذي أسفر عن ميلاد الاتحاد العام للعمال الجزائريين يوم الرابع والعشرين فيفري من نفس السنة.
وبعد إضراب الثمانية أيام الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني، نهاية جانفي سنة 1957، صدر أمر من العسكر الفرنسي بإلقاء القبض على محمد دراريني مما اضطره إلى ترك العاصمة والالتحاق برفاق النضال المسلح، وهناك بأعالي الجبل وفي أحد الكمائن أسلم الشهيد الروح لبارئها مرصعا رصيده النضالي بوسام الشهادة في سبيل الله والوطن.
هي سيرة رجل وإن غاب ذكره وتوارى اسمه في السجلات المغبرة، إلا أن الذي رزقه أعلى وسام وقلده لقب الشهيد سيجعل من آثاره منارة ترشد التائهين وتدل على الوصول إلى مرفأ النجاة والخلاص، هم الرجال كافحوا وناضلوا وجاهدوا في سبيل إعلاء راية الجزائر وجعل اسمها يذكر في المحافل وقدموا لها أغلى ما ملكت يمينهم مستحضرين القول الشادي بلادي بلادي اسلمي وانعمي، سأرويك حين الظماء من دمي، فأنت الجزائر خير حمى، وشعبك فخر فلا تسأمي.
منير عربية