أسهبت الصحافة السورية في الثناء على مبادرة وزارة الثقافة في إعادة قراءة سيرة رائد النهضة الوطنية “عبد الحميد بن باديس”، فأنتجت فيلماً سينمائياً يحمل اسمه محققة بذلك أهدافاً فكرية وإبداعية وسياسية
مرجوة، وهو الفيلم الذي عرض تحت رعاية وزير الثقافة السوري الأستاذ محمد الأحمد وبالتعاون مع السفارة الجزائرية في دمشق والمؤسسة العامة للسينما.
وتساءلت جريدة “الوطن” السورية ذائعة الصيت لماذا ابن باديس بالذات وليس رجلا آخرا من رجال الجزائر، وأجاب صاحب المقال كاتبا: “يلتقي طموحان مهمان في إنجاز الفيلم الجزائري الكبير “ابن باديس”، الأول هو طموح وزارة الثقافة الجزائرية والمركز الجزائري لتطوير السينما لإنتاج فيلم لائق على الساحة الجزائرية والعربية، والثاني طموح المبدع المخرج باسل الخطيب الذي شق طريقاً خاصاً به قدم من خلاله أعلاماً قومية تركت آثارها الثقافية والنضالية في الماضي والحاضر، وهكذا لم يكن فيلمه الجديد خارج سياق ميدانه السينمائي والفكري الخاص.
وواصل صاحب المقال في نفس الإطار “لعل السؤال الأبرز الذي يجيب عليه الفيلم لماذا تتجه وزارة الثقافة الجزائرية الآن إلى إنتاج كبير القيمة الإبداعية والمالية لإعادة تقديم سيرة المناضل السياسي والعلامة الديني عبد الحميد بن باديس الذي عاش بين عامي 1889 -1940 وترك آثاره النضالية والإصلاحية والدينية في مجتمعه الجزائري انطلاقاً من مدينته قسنطينة ثاني أهم المدن الجزائرية؟
وشدد الكاتب على أن السؤال يخفي وراءه حساسية بالغة تتعلق بمغزى إعادة إنتاج الخطاب الديني، الأمر الذي أصبح “فوبيا” ثقافي سواء في سوريا أو في الجزائر، حيث عانى البلدان من استغلال الفكر الديني وتراث رجاله من تيارات متطرفة كانت في مقدمة التضليل الديني الذي استندت إليه الجماعات الإرهابية في البلدان العربية.
وأوضح الكاتب: “لا أفشي سراً إذا أوضحت هنا أنني من أجل مصداقية الجواب، سألت كاتب السيناريو الأستاذ رابح ظريف عقب مشاهدة الفيلم عن علاقة إنتاج الفيلم بما يجري من تطرف وإرهاب على الساحة العربية، فكانت إجابته: إلى جانب ما يمثل ابن باديس من فكر جزائري وعربي وإسلامي يستحق إعادة التقديم، فإن بعض التيارات الدينية المتطرفة وعلى رأسها الحركة الوهابية حاولت السطو على تراث ابن باديس معتبرة أنه كان يمثل الحركة الوهابية في الجزائر. ولعل ما تقدم من أفكار نضالية وإصلاحية ودينية لابن باديس كانت واضحة الخلفيات بالنسبة للمشاهد الجزائري، إلا أن المشاهد خارج الجزائر قد تتسع تساؤلاته حول موقع ابن باديس في التراث العربي، وتكون الإجابة عليه بحق هي هذا العمل السينمائي الكبير الآن.
ومضى الكاتب في ذكر محاسن الفيلم، مشيرا إلى أن “ابن باديس” يؤكد وضوحا في الرؤية الفكرية والإخراجية، لافتا إلى أهمية الرجل الذي عبر عنه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حين قال: “إن ابن باديس نظر إلى الحياة بعقل المفكر السياسي المشبع بالإيمان، الممحص للحوادث، المستقرئ لمكنونات التجارب احتساباً منه لأهلية الرجل المنوطة به مهام بناء التاريخ”.
وتابع الكاتب: “كانت مهام بناء التاريخ هي الرؤية الأقرب إلى شخصية المبدع باسل الخطيب في تجارب سابقة، ليلتقي، كما قلنا، طموحان وهو ما أعطى فيلم ابن باديس كأسلوب سينمائي منظوره ومشهده وميدانه وأجوبته الفكرية المرجوة”.
وتكمن أهمية فيلم “ابن باديس” في نظر صاحب المقال أنه استطاع أن يقتحم هذه الساحة التراثية الفكرية الجزائرية والعربية، من هذه الرؤية الشاملة بهدوء توثيقي، وتحليل عقلاني وأبعاد نضالية إنسانية وكجزء من التراث الشعبي الجزائري وذلك من دون إقحام سياسي ولا مبالغة عاطفية ولا عملية دعائية ليكون عملاً فنياً بارزاً يضاف إلى الثقافة الجزائرية والعربية في المكان والزمان المناسبين.
وهكذا جاء ابن باديس الرؤية السينمائية في مكانه الجزائري ابن النضال الذي قدم مليون شهيد في حربه ضد المستعمر، وهو يتوازى الآن في الزمان مع ما تطلقه الحروب الإرهابية من مخاوف على الشعب العربي في كل مكان لاغتيال الفكر المستنير المعتدل، فيكون شاهداً ووثيقة على كذب ادعاءاته المتطرفة.
وحسب الكاتب، فإن باسل الخطيب سجل في فيلمه الجديد تلك الأمانة في تشكيل أبعاد الحياة الجزائرية داخل مشهده بإبداع رسام، وليس بفوتوغرافية مصور، وإن كنت شخصياً حاولت استقصاء ملامح المشهد السينمائي لفيلم “ابن باديس”، فيجب أن أؤكد هنا عمق ارتباطها بالفن الجزائري الأصيل الذي صور الحياة الشعبية الجزائرية في أوائل القرن العشرين، وختم مقاله: “نستطيع القول إن فيلم ابن باديس هو تحفة فنية سينمائية تضاف بجدارة إلى تحف الفن الجزائري التراثي الأصيل، وهو من حيث الأسلوب عمل سينمائي متقن الصنع يأخذ الأمة من واقع الحياة الجزائرية التاريخية، ويضع الأفكار النضالية والإصلاحية في مكانها الحقيقي فلا تقع أسيرة التطرف ولا يمكن أن تنحرف إلى مجاهل الإرهاب، ذلك أن الملامح الحقيقية لشخصية ابن باديس هي النضال الذي ورثته عن تجربة الأمير عبد القادر الجزائري، وألهمت من بعده حركات التمرد والتحرر ضد الاستعمار الفرنسي”.