حق الوالدين أتى بعد حق العبودية لله تشريفًا وتعظيمًا، فقال تعالى: ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ” الإسراء: 23، وفي هذا المعنى قيل: ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين، فقال: ” وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا “؛ أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكُّد الحق ووجوب البر، هذا الربط الدقيق بين العبودية لله وهي أعظم حق في الوجود وهي النجاة للعبد في الدنيا والفلاح في الآخرة، جعل الإحسان للوالدين عبودية تكاد تقارب الوحدانية لله فضلًا وأجرًا بدلالة الاقتران، وقد جعلت السنة للأم في هذا الشأن قدم صدق وقصب سبق، فقد جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: “يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ” رواه البخاري.
إذا كان في يد الابن بر وإحسان، وازدحمت الأمور، فإن الأم أولى به من ثلاثة أوجه: الأول استحقته بالحمل، والثاني بالإرضاع، والثالث بالتربية والإشفاق، ولذا أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم عدلًا نصابها من الإحسان والبر والعطاء، وهذا فيه توجيه لكل من يقدم الغير على الأم بحجج ليس لها معنى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ”، قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء: كَانَ الصَّوَاب فِي حَقِّه إِجَابَتهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاة نَفْل، وَالِاسْتِمْرَار فِيهَا تَطَوُّع لَا وَاجِب، وَإِجَابَة الْأُمِّ وَبِرهَا وَاجِب، وَعُقُوقهَا حَرَام، وَكَانَ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَفِّف الصَّلَاة وَيُجِيبهَا ثُمَّ يَعُود لِصَلَاتِهِ. هل هناك أعظم من تزاحم حقِّ الله وحق البشر، فيقدم بلا شك حقَّ الله في العبادة، فإن كان هذا البشر الأم فيقدم حقَّها في نافلة من أعظم النوافل الصلاة فما دون ذلك من باب أولى، وهذا رسالة قوية لكل عاق كسر عبودية البر بتقديم الغير على أحب الناس وأجمل الناس في هذه الحياة.