المعرفة والتكنولوجيا تصنعان ملامح "الجزائر الجديدة"

بثبات نحو التحول الرقمي..

بثبات نحو التحول الرقمي..
  • رقمنة شاملة تعيد تعريف الإدارة والخدمات

  • تكنولوجيا المعرفة في قلب الاقتصاد الوطني

  • جيل رقمي يصنع ملامح الجزائر الجديدة

تعمل الجزائر، بخطى متسارعة ومدروسة، على ترسيخ التحول الرقمي كخيار استراتيجي يلامس مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية والإدارية والتعليمية.

فمشروع الرقمنة أصبح ركيزة من ركائز “الجزائر الجديدة” التي تراهن على المعرفة والتكنولوجيا لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وفي هذا المسار، يشكّل صالون “كونستنتيك 2025” المزمع تنظيمه بقسنطينة محطة بارزة لترجمة هذا التوجه ميدانيًا، من خلال جمع الفاعلين في مجال الابتكار والتكنولوجيا لتكريس ثقافة رقمية شاملة تعزّز مكانة الجزائر في المشهد التكنولوجي الإفريقي والعالمي.

 

الرقمنة.. من تحديث إداري إلى مشروع وطني شامل

منذ إطلاق أولى الإصلاحات الرقمية في المؤسسات العمومية، اتّضح أن الجزائر لم تعد تتعامل مع الرقمنة كوسيلة لتحسين الخدمات فقط، بل كمشروع وطني يهدف إلى تغيير بنية الدولة الحديثة. فبرامج التحول الرقمي التي أطلقتها الحكومة في السنوات الأخيرة شملت مجالات متعددة كالإدارة، التعليم، الصحة، والمالية، مع تركيز خاص على رقمنة الوثائق الإدارية وربط قواعد البيانات الوطنية لتسهيل تسيير الملفات العمومية.وقد شدّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في أكثر من مناسبة خلال سنة 2025، على أن الرقمنة تمثّل “سلاحًا فعالًا ضد البيروقراطية والفساد، وأداةً لبناء اقتصاد شفاف يخدم المواطن”. هذا التوجه الرئاسي أفرز نتائج ملموسة في تسريع المعاملات وتخفيض التكاليف وتحسين أداء المؤسسات العمومية، خصوصًا بعد إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل المعطيات وتسيير الخدمات. وتعمل وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، بالتنسيق مع وزارتي البريد والاتصال والتعليم العالي، على تسريع رقمنة المنظومات التعليمية والإدارية، من خلال مشاريع رقمية مهيكلة تشمل المنصات الحكومية، التعليم عن بعد، والهوية الرقمية للمواطن. وبهذا، لم تعد الرقمنة مجرد شعار في الخطط الحكومية، بل أصبحت منظومة متكاملة تهدف إلى بناء إدارة عصرية واقتصاد يقوم على الكفاءة والشفافية.

 

التحول الرقمي في قلب الاقتصاد الجديد

في ظل التحولات العالمية المتسارعة، باتت الرقمنة تشكّل العمود الفقري للاقتصاد الجزائري الجديد، القائم على الابتكار وريادة الأعمال. فقد انتقلت الدولة من مرحلة الحديث عن الرقمنة إلى مرحلة بناء منظومات رقمية متكاملة تمسّ قطاعات حيوية مثل الطاقة، المالية، النقل، والتعليم العالي. وتُظهر المؤشرات الحكومية لسنة 2025 توسّعًا لافتًا في استخدام الحلول الرقمية في المؤسسات الاقتصادية، سواء من حيث الإدارة الذكية أو تطوير الخدمات الإلكترونية الموجّهة للمواطنين والمستثمرين. وأكد وزير اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، في أحد تصريحاته، أن الجزائر “تعيش لحظة انتقالية حقيقية نحو الاقتصاد الرقمي، بفضل الدعم الرئاسي وإشراك الكفاءات الشابة في بناء الحلول التكنولوجية المحلية”. وأوضح أن الحكومة تعمل على تحويل الرقمنة إلى قطاع إنتاجي قائم بذاته، يخلق الثروة ومناصب الشغل، بدل أن يكون مجرد قطاع خدماتي داعم. وتترجم هذه الرؤية من خلال إنشاء أكثر من 35 حاضنة ومسرّع أعمال عبر مختلف الولايات، إلى جانب الصندوق الوطني لتمويل المؤسسات الناشئة الذي يموّل سنويًا مئات المشاريع في مجالات الذكاء الاصطناعي، التطبيقات الرقمية، الأمن السيبراني، والبيانات الضخمة. بهذا التحول، تتحول الرقمنة في الجزائر من وسيلة للتسيير إلى محرّك فعلي للنمو، يسهم في تنويع الاقتصاد وتخفيض التبعية للقطاع التقليدي للمحروقات.

 

“كونستنتيك 2025”.. واجهة الابتكار ورهان الشباب

Aucune description de photo disponible.

في هذا السياق المتسارع، يأتي صالون “كونستنتيك 2025” المزمع تنظيمه من 4 إلى 6 نوفمبر بقسنطينة، ليكون أكثر من مجرد حدث مهني؛ إنه منصة تفاعلية تُجسّد طموح الجزائر في بناء اقتصاد معرفي حقيقي. فالصالون، الذي يُنظم تحت رعاية وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة والمؤسسات المصغّرة، سيجمع المبتكرين ورواد الأعمال والمؤسسات الداعمة في فضاء واحد، يلتقي فيه الفكر العلمي بالتطبيق العملي، ضمن تظاهرة تعتبر اليوم الأكبر في مجال الرقمنة وتكنولوجيات الإعلام والاتصال في الشرق الجزائري. وسيُسلّط الصالون الضوء على مشاريع نوعية في مجالات الذكاء الاصطناعي، الصحة الرقمية، البيانات الضخمة، الواقع الافتراضي، والطاقة الذكية، بمشاركة مؤسسات بحثية وطنية على غرار مركز البحث في تكنولوجيا أنصاف النواقل الطاقوية. كما ستشارك حاضنات الأعمال الجامعية والقطاع الخاص كمساهمين أساسيين في خلق الجسور بين الجامعة والمؤسسة، في نموذج عملي للتكامل بين البحث العلمي وريادة الأعمال. ويتوقّع المنظمون حضور أكثر من 8 آلاف زائر ومهني، إلى جانب الهيئات الممولة والمرافقة مثل الصندوق الوطني لتمويل المؤسسات الناشئة والوكالة الوطنية لتثمين نتائج البحث. وبذلك، يشكّل “كونستنتيك 2025” موعدًا لتكريس ثقافة الابتكار لدى الشباب الجزائري، وفضاءً لتسويق الكفاءات الرقمية محليًا ودوليًا، ما يجعله نقطة ارتكاز جديدة في مسار التحول الرقمي الوطني.

 

الأمن السيبراني.. الجبهة الجديدة لحماية السيادة الرقمية

Aucune description de photo disponible.

مع توسّع التحول الرقمي في المؤسسات العمومية والخاصة، برز الأمن السيبراني كأحد أهم الرهانات الاستراتيجية للجزائر. فكلّما ازدادت درجة الرقمنة، ارتفعت الحاجة إلى حماية المعطيات الحساسة من الهجمات الإلكترونية التي أصبحت سلاحًا جيوسياسيًا بامتياز في عالم اليوم. ومن هذا المنطلق، تعمل الحكومة على بناء منظومة أمن سيبراني وطنية متكاملة، تُشرف عليها وزارة الرقمنة بالتنسيق مع وزارة الدفاع الوطني، لضمان أمن الأنظمة المعلوماتية في القطاعات الحيوية، خصوصًا الطاقة، المالية، والصحة. وقد أشار وزير الرقمنة والإحصائيات، في إحدى تصريحاته خلال 2025، إلى أن “السيادة الرقمية لا تُقاس فقط بعدد التطبيقات والمنصات، بل بقدرتنا على حماية بياناتنا من أي اختراق أو تبعية تكنولوجية خارجية”. لهذا أطلقت الجزائر برامج متقدمة لتكوين المهندسين والمتخصصين في مجال أمن المعلومات، مع إنشاء مخابر وطنية لرصد الهجمات والتدخل الفوري ضد أي تهديد إلكتروني. كما أُدرج موضوع الأمن السيبراني كأحد المحاور الرئيسية لندوات “كونستنتيك 2025”، حيث سيناقش خبراء جزائريون وأجانب تحديات الحوسبة السحابية وشبكات الجيل الخامس وأخلاقيات التكنولوجيا. هذه المقاربة الشمولية تجعل من الرقمنة في الجزائر مشروعًا سياديًا بامتياز، لا ينفصل عن الدفاع الوطني، بل يشكّل امتدادًا له في الفضاء الرقمي.

 

من الرقمنة إلى الاقتصاد المعرفي.. الجزائر ترسم ملامح المستقبل

Aucune description de photo disponible.

لم يعد التحول الرقمي في الجزائر مجرد تحديث إداري، بل أصبح مدخلًا فعليًا لبناء اقتصاد معرفي يقوم على الإبداع والابتكار. فالدولة تراهن على تحويل المعرفة إلى ثروة، عبر توظيف التكنولوجيا في تحسين الإنتاج، وتسهيل الاستثمار، وتحفيز الشباب على إنشاء مؤسسات ناشئة ذات بعد رقمي. هذا التوجّه تعززه رؤية رئاسية واضحة، عبّر عنها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في أكثر من مناسبة، حين أكد أن “الجزائر تمتلك من القدرات والكفاءات ما يؤهلها لتكون قوة رقمية إفريقية إذا تم الاستثمار الصحيح في العقول الشابة”. وفي هذا الإطار، تشهد الجامعات الجزائرية اندماجًا متزايدًا في مسار التحول الرقمي، من خلال إنشاء مراكز للابتكار وحاضنات أعمال داخل الحرم الجامعي، ما سمح بربط البحوث الأكاديمية بسوق العمل. كما أسهمت مبادرات مثل الصندوق الوطني لتمويل المؤسسات الناشئة والمسرّعات الجامعية في تحويل الأفكار إلى مشاريع اقتصادية واقعية، تعزز منظومة ريادة الأعمال الوطنية. وبينما تسعى الجزائر للوصول إلى مكانة ريادية في إفريقيا، تتبلور معالم استراتيجية طويلة المدى تقوم على ثلاثة أعمدة: رقمنة الإدارة، تطوير المحتوى المحلي، وتوطين التكنولوجيا. وهي معادلة تهدف إلى تحقيق استقلال رقمي يواكب العصر، ويجعل من الرقمنة ليس فقط وسيلة للتسيير، بل أداة للسيادة الاقتصادية والمعرفية في عالم يتغير بسرعة الضوء. تُختتم هذه الديناميكية الرقمية الطموحة بصورة تُبرز أن الجزائر لا تسعى فقط إلى اللحاق بركب الرقمنة العالمية، بل إلى صناعة نموذجها الخاص القائم على السيادة التكنولوجية والمعرفة المنتجة. فكل المشاريع والمبادرات التي يجري تنفيذها اليوم، من “كونستنتيك 2025” إلى الصناديق الداعمة للمؤسسات الناشئة، تسير وفق رؤية موحدة: بناء دولة رقمية قادرة على التحكم في مواردها، وتوظيفها بذكاء لخدمة التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. لقد أصبحت الرقمنة في الجزائر مشروع دولة ومجتمع معًا، مشروعًا يتجاوز حدود الإدارة والاقتصاد إلى إعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والمؤسسة. فالتحول الرقمي يخلق اليوم جيلاً جديداً من الجزائريين يتعامل مع التكنولوجيا بوصفها أداة للتمكين لا للاستهلاك، ويؤسس لثقافة رقمية تُعيد الثقة في المؤسسات وتفتح آفاقاً واسعة أمام الإبداع الشبابي، الذي بات يشكّل محركًا رئيسيًا في بناء اقتصاد وطني أكثر استقلالية وشفافية. وفي سياق إقليمي يشهد تنافساً حاداً على الريادة الرقمية، تبدو الجزائر في موقع متقدم بفضل ما تمتلكه من موقع جغرافي محوري وكفاءات بشرية مؤهلة وإرادة سياسية قوية. فالمسار الذي بدأ بخطوات تدريجية في رقمنة الإدارة، يتجه اليوم نحو بناء اقتصاد معرفي متكامل، يُحوّل التكنولوجيا من قطاع مساعد إلى قطاع مولّد للثروة، ويُعزز موقع البلاد في إفريقيا والعالم العربي كمركز للتطوير التكنولوجي والابتكار. إن التحول الرقمي في الجزائر لم يعد خياراً، بل أصبح مساراً استراتيجياً نحو المستقبل. فبينما تتسارع التغيرات التقنية على المستوى العالمي، تواصل الجزائر ترسيخ مكانتها كقوة صاعدة في ميدان التكنولوجيا والاقتصاد المعرفي، واضعةً نصب عينيها هدفاً واضحاً: أن تكون الرقمنة رهاناً وطنياً شاملاً، يُترجم طموح “الجزائر الجديدة” إلى واقع ملموس يُعيد رسم ملامح الدولة الحديثة ويصون سيادتها في الفضاء الرقمي كما في كل المجالات الأخرى.