الهدي النبوي في الحر الشديد

الهدي النبوي في الحر الشديد

أعظم ميزة تميز بها المسلمون على من سواهم من أهل الملل والأديان الأخرى أنهم يؤمنون بالغيب إيماناً صحيحاً، وأما غيرهم فإما منكرون للغيب، وإما يؤمنون به إيماناً مغلوطاً؛ فلا ينفعهم إيمانهم به. ومن رحمة الله تعالى بعباده، وحكمته فيهم، وإقامة حجته عليهم أن جعل في العالم المشاهد ما يدل على عالم الغيب، وجعل في دار الدنيا دلائل على الآخرة؛ فأصحاب العقول السوية يستدلون بالحاضر على المستقبل، وبالمشاهد على الغائب، ويوقنون به. ومما أخبرنا الله تعالى عنه من عالم الغيب: الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والنار وما فيها من العذاب الأليم. وما نراه من نعيم الدنيا في زمانه كاعتدال الأجواء، وهطول الأمطار، ونسيم الصباح؛ فهو مذكر بنعيم الجنة، أو في مكانه كالبلاد المخضرة أرضها، الجارية أنهارها، اليانعة ثمارها، البارد صيفها، فهي مذكرة بخضرة الجنة وأنهارها وثمارها وطيب ما فيها، أو في أحوال كأحوال الشخص حين يسعد بنعم تتجدد له، وعافية تحيط به، فهو مذكر بأهل الجنة؛ لأنهم ينعمون، ويفرحون ولا يحزنون، ولا يمرضون ولا يموتون. وما نراه من ألم الدنيا وعذابها في زمانه كشدة الصيف فهي مذكرة بنار جهنم، وبحرارة موقف القيامة، وشدة الشتاء مذكرة بعذاب الزمهرير، أو في مكانه فبعض الصحارى قاحلة ولا يطاق حرها في الصيف، وبعض البلاد باردة برودة تقلب العيش عذابا، وهذا كله مذكر بحر النار وزمهريرها.

وكما أن في شدة الحر عبر وعظات فكذلك لها فقه وأحكام: ومن أحكامها: الإبراد بصلاة الظهر، وهو تأخيرها عن أول وقتها حتى تنكسر شدة الحر، ويصير للحيطان ظل، فيمشي فيه قاصد المسجد، ولا يمشي في الشمس، وحجة ذلك حديث أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَبْرِدْ” ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ لَهُ: “أَبْرِدْ” حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ” رواه الشيخان. وصوم التطوع في اليوم الحار فضيلة، وقد جاء عن عدد من الصحابة والتابعين أنهم لم يأسوا على شيء من الدنيا إلا على خصال من العبادة، منها: ظمأ الهواجر، وذلك لا يكون إلا بالصيام في الصيف حيث شدة الحر، وطول النهار. ولا يشرع لمن صام في الحر أن يقصد الشمس ليزداد عطشه ومشقته؛ لأن التعبد بتعذيب الجسد ليس من الإسلام في شيء،  ومن أعظم طاعات الحر الشديد: سقي الماء، سواء بحفر الآبار في المناطق الفقيرة الحارة، أو تسبيل البرادات في المساجد والأسواق وطرق الناس، أو توفير المياه المعلبة الباردة، ولا سيما لمن يحتاجونه كالعمال والمتسوقين ونحوهم؛ فإن صدقة الماء من أعظم الصدقات كما جاء في الحديث أن سعد بن أبي عبادة رضي الله عنه أنه أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ؟ قَالَ: “الْمَاءُ” رواه أبو داود. قال ابن بطال: سقي الماء من أعظم القربات إلى الله تعالى وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء، وإذا غفرت ذنوب الذي سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحدا أو أحياه بذلك؟. وهناك بعض الأخطاء اللفظية الخاصة بالأمور العقائدية يقع فيها البعض، كالتذمر من الحر والأحوال الجوية، ومن المعلوم أن الريح والغيم والمطر والحر والبرد آياتٌ من آيات الله عز وجل، وهي مُسخَّرة بأمره سبحانه وتعالى، يصرفها كيف يشاء؛ قال تعالى “وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ” البقرة: 164.

 

من موقع شبكة الألوكة