-
القمة الطارئة في الدوحة.. اختبار الإرادة السياسية أمام شعوب غاضبة
-
بين التحديات والفرص.. هل يخرج الحلف العسكري من دائرة الشعارات؟
لم يكن قصف الدوحة، مجرّد حادثة عابرة في سجل الاعتداءات الإسرائيلية، إذ شكّل صدمة مدوية و”جرس إنذار” هزّ المنطقة بأسرها، بعدما استهدفت النيران هذه المرة عاصمة عربية آمنة يفترض أنها بعيدة عن دائرة المواجهات المباشرة.
الحدث أعاد إلى الواجهة سؤالا ظلّ يراوح مكانه لسنوات: كيف يمكن للعرب والمسلمين أن يحموا أنفسهم من آلة عدوانية لا تعترف بالحدود ولا بالاتفاقيات؟ وبين الغضب الشعبي والانتقادات الرسمية، تبرز اليوم فكرة “الناتو العربي – الاسلامي” كخيار يتجاوز الشعارات إلى التفكير الجدي في تحالف عسكري وأمني قد يغيّر قواعد اللعبة، خاصة مع دعوة العراق الواضحة لتشكيل حلف إسلامي، ومع انعقاد القمة الطارئة في الدوحة التي قد تكون منصة لإعلان ميلاد هذا المشروع المؤجل منذ سنوات.
قصف الدوحة.. الشرارة التي أشعلت النقاش

الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية مثّل تحولًا خطيرًا في طبيعة الاعتداءات، إذ انتقلت من استهداف غزة ولبنان وسوريا إلى ضرب قلب الخليج العربي. هذا التطور حمل دلالات أبعد من مجرد عمل عسكري، لأنه أعاد رسم حدود التهديد، وبيّن أن أي دولة عربية قد تكون الهدف القادم مهما كان بعدها عن خطوط النار. وهكذا، تحول قصف الدوحة إلى حدث محوري فرض نفسه على النقاش السياسي والأمني في المنطقة. الأصداء الأولى لهذا القصف جاءت حادة وغاضبة، ليس فقط من قطر بل من معظم العواصم العربية والإسلامية التي رأت فيه تعديًا سافرًا على السيادة الوطنية، ورسالة تهديد غير مباشرة لكل الحكومات. لقد بدا واضحًا أن “إسرائيل” لم تعد تكتفي بالمواجهة مع الفصائل الفلسطينية أو حلفائها الإقليميين، بل اختارت أن توسع نطاق استهدافها ليشمل دول عربية تمثل عمقًا استراتيجيًا وسياسيًا. وهذا ما زاد من حدة الغضب الشعبي، الذي رأى في الاعتداء اعتداءً على الأمة كلها. على المستوى الشعبي، خلّف القصف موجة من التضامن مع قطر، عبّر عنها مواطنون من مختلف الدول العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشارع. كثيرون اعتبروا أن ما حدث في الدوحة هو “إهانة مشتركة” لا تخص قطر وحدها، وأن الرد عليها يجب أن يكون جماعيًا وموحدًا. هذا المزاج الشعبي أعاد طرح قضية الدفاع المشترك بقوة، في ظل شعور متزايد بأن البيانات المنددة وحدها لم تعد تكفي أمام “نهج عدواني” يتحدى كل المحرمات. وبينما ارتفعت الأصوات الرسمية المنددة، اتجهت الأنظار سريعًا إلى ما هو أبعد من الشجب والاستنكار: كيف يمكن ترجمة هذه الصدمة إلى خطوة عملية؟ هنا برزت مجددًا فكرة “الناتو العربي” كخيار مطروح لإعادة التوازن إلى معادلة الردع، ولتأكيد أن العرب قادرون على الدفاع عن أمنهم الجماعي. فالقصف كان بمثابة الشرارة التي أعادت إشعال نقاش قديم حول التحالفات العسكرية العربية وضرورتها.
دعوة العراق.. هل تتحول الأقوال إلى أفعال؟
وإذا كان قصف الدوحة قد أعاد فتح ملف الأمن الجماعي من بابه الأوسع، فإن دعوة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، جاءت لتمنح هذا النقاش شكلًا سياسيًا وملموسًا. فبينما انشغلت العواصم بالتنديد والاحتجاج، اختار السوداني أن يرفع السقف عاليًا بالدعوة إلى إنشاء حلف إسلامي عسكري يتجاوز حدود التضامن اللفظي إلى بناء قوة فعلية قادرة على الردع. هذه الدعوة، التي وُصفت بالجريئة، بدت وكأنها الجسر الذي يربط الغضب الشعبي بخيارات عملية على مستوى الحكومات. في تصريحاته لقناة “الجزيرة”، لم يكتف السوداني بالإشارة إلى خطورة الاعتداء على قطر، بل قدّم قراءة أوسع اعتبرت الهجوم تهديدًا مباشرًا لكل الدول العربية والإسلامية. ما يميز هذه الدعوة أنها جاءت بعد تراكم طويل من الأزمات التي كشفت محدودية الردود الفردية، من حرب غزة إلى التصعيد في لبنان وسوريا، وصولًا إلى قصف الدوحة. وبذلك، بدا السوداني وكأنه يلتقط اللحظة المناسبة ليقول: “الوقت حان لتحالف سياسي وأمني واقتصادي شامل”. غير أن دعوة السوداني، رغم أهميتها، تطرح سؤالا جوهريا: هل ستظل ضمن خانة الخطابات الحماسية أم أنها بداية لمسار مؤسساتي جدي؟ التجارب السابقة أظهرت أن الكثير من المبادرات العربية والإسلامية ولدت تحت ضغط الأحداث، لكنها سرعان ما تلاشت أمام تناقضات المصالح والخلافات السياسية. وهنا تكمن أهمية اختبار هذه المبادرة: هل ستبقى كلمات على الورق، أم ستتطور إلى خطوات عملية تعكس جدية التحرك؟ ردود الفعل الأولية على هذه الدعوة تراوحت بين الترحيب الحذر والتشكيك الواقعي. بعض الآراء عبر وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي رأت فيها فرصة لإعادة بناء منظومة دفاع مشترك طال انتظارها، فيما اعتبرها آخرون مجرد رد فعل ظرفي سرعان ما سيفقد زخمه بعد انقضاء القمة. لكن المؤكد أن السوداني أعاد النقاش إلى طاولة القرار، وفتح بابًا لم يكن مطروحًا بقوة منذ سنوات. بهذا المعنى، تبدو دعوته نقطة فاصلة: إما أن تكون شرارة لتأسيس جديد، أو أن تتحول إلى حلقة أخرى في سلسلة المبادرات المؤجلة.
الناتو العربي.. مشروع قديم يعود للحياة

وإذا كانت دعوة السوداني قد منحت النقاش حول الأمن الجماعي دفعة جديدة، فإنها أعادت في الوقت نفسه إلى الأذهان مشروعًا ظل حاضرًا في الذاكرة السياسية العربية دون أن يرى النور: مشروع “الناتو العربي”. هذا المفهوم ليس وليد اليوم، بل طرح قبل نحو عقد من الزمن كفكرة مصرية تستهدف إنشاء تحالف عسكري عربي على غرار حلف شمال الأطلسي، ليكون أداة ردع جماعي في مواجهة التهديدات الإقليمية. غير أن الخلافات السياسية آنذاك حالت دون تحوله إلى واقع ملموس. في نسخته الأولى، اصطدم المشروع بجدار صلب من الانقسامات بين الدول العربية، سواء بسبب اختلاف الرؤى حول طبيعة التهديدات أو بسبب الحسابات الخاصة بكل دولة. البعض اعتبره أداة لجرّ المنطقة إلى صراعات جديدة، فيما رآه آخرون مشروعًا محكومًا عليه بالفشل مسبقًا لغياب الإرادة السياسية والتمويل. هكذا، بقي “الناتو العربي” شعارًا إعلاميًا أكثر منه مبادرة قابلة للتنفيذ. لكن التطورات الراهنة، وفي مقدمتها قصف الدوحة، منحت المشروع بعدا مختلفا. فاليوم، الحديث عن الأمن الجماعي صار ضرورة وجودية في ظل تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية واتساع رقعة الاستهداف. هذا الواقع الجديد قد يجعل من فكرة الحلف العربي-الإسلامي أكثر إلحاحا، خاصة إذا وجدت دعما شعبيا ورسميا متزامنا كما يحدث الآن. التجارب الدولية تقدّم دروسا يمكن الاستفادة منها. فحلف شمال الأطلسي (الناتو) وُلد من رحم الحرب الباردة كأداة دفاع جماعي، وتمكن من الصمود لعقود بفضل وضوح أهدافه والتزام أعضائه. وفي العالم الإسلامي، شهدنا محاولات شبيهة مثل “التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب” الذي أعلنت عنه السعودية عام 2015، لكنه لم يكتمل عمليا. الفرق اليوم أن التهديدات باتت أكثر مباشرة، والمزاج الشعبي أكثر ضغطا، ما قد يهيئ الظروف لبعث المشروع من جديد.
القمة الطارئة في الدوحة.. لحظة اختبار
وإذا كان مشروع “الناتو العربي” قد بقي لسنوات حبيس الرفوف بسبب غياب التوافق، فإن التطورات الأخيرة وضعت القادة العرب والإسلاميين أمام امتحان جديد في الدوحة. فالقمة الطارئة، تبدو بمثابة الاختبار العملي لمدى استعداد الدول لترجمة الغضب الشعبي والدعوات الرسمية إلى خطوات مؤسساتية. إن انتقال الفكرة من خانة التاريخ المؤجل إلى جدول أعمال هذه القمة يعكس إدراكا جماعيا بأن التهديد لم يعد نظريا، وأن الوقت لم يعد يسمح بالمراوحة. القمة قد تحمل في طياتها أكثر من مجرد بيانات إدانة، وتركز على بحث آليات الردع الجماعي والتنسيق الأمني والعسكري بين الدول العربية والإسلامية. هذا التحول في طبيعة النقاش يُظهر أن ما كان يُطرح سابقًا كاقتراحات فردية بات اليوم مشروعًا مطروحًا للنقاش الجماعي، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمالية الإعلان عن خطوات عملية، ولو أولية، باتجاه تشكيل حلف عسكري مشترك. لكن التوقعات تظل متباينة. فالبعض يرى أن القمة قد تكتفي ببيانات سياسية دون قرارات ملزمة، بحكم الخلافات العميقة بين الدول الأعضاء. فيما يتوقع آخرون أن يُعلن على الأقل عن إنشاء لجنة متابعة أو آلية عمل مشتركة تمهّد الطريق لإحياء فكرة “الناتو العربي”. وفي كلتا الحالتين، فإن مجرد إدراج الفكرة في جدول الأعمال يُعد خطوة متقدمة مقارنة بالسنوات الماضية. الأهم من كل ذلك أن القمة الطارئة في الدوحة تعكس لحظة فارقة: إما أن تكون محطة تاريخية لتدشين مسار جديد في العمل العربي-الإسلامي المشترك، أو تتحول إلى مناسبة أخرى للتنديد دون أثر فعلي. وهنا يكمن التحدي الحقيقي، فالعواصم المشاركة تدرك أن الشعوب تترقب، وأن “الشرارة التي أشعلها قصف الدوحة” لا يمكن إطفاؤها إلا بخطوات ملموسة تقنع المواطن العربي بجدية التحرك.
بين التحديات والفرص.. أي مستقبل للحلف العسكري؟
وإذا كانت القمة الطارئة في الدوحة قد شكّلت اختبارًا حقيقيًا لإرادة الدول، فإن مستقبل “الناتو العربي – الاسلامي” سيظل مرهونًا بقدرة الحكومات على تجاوز التحديات التي أطاحت بالمبادرات السابقة. فالطريق نحو بناء تحالف عسكري عربي-إسلامي ليس مفروشًا بالورود، بل تعترضه خلافات سياسية عميقة، وتباينات في الرؤى حول طبيعة الأولويات الأمنية، فضلًا عن عقبة التمويل وتوزيع الأدوار بين الدول. هذه التحديات تجعل من المشروع رهانًا صعبًا، لكنه ليس مستحيلًا. في المقابل، تبرز فرص كبيرة تجعل الفكرة قابلة للتجسيد إذا توفرت الإرادة السياسية. فالتنسيق العسكري يمكن أن يشكل مظلة ردع جماعي تحمي الأمن القومي العربي، وتضع حدًا لتجاوزات إسرائيل المتكررة. كما أن إنشاء قوة مشتركة سيعزز مكانة العرب على الساحة الدولية، ويمنحهم ورقة ضغط إضافية في الملفات الإقليمية، من فلسطين إلى الخليج مرورًا بالبحر الأحمر. إنها فرصة لإعادة رسم موازين القوى بما يخدم المصالح العربية. من الناحية الاستراتيجية، قد يكون تشكيل مثل هذا الحلف خطوة لتوحيد الصف العربي والإسلامي، بعد سنوات من الانقسامات التي استنزفت المنطقة وأضعفت قدرتها على مواجهة التحديات. فالتاريخ يثبت أن أي تحالف يكتسب قوته من وضوح أهدافه وتماسك أعضائه، وإذا ما نجح العرب في الاتفاق على أولويات مشتركة، فإن “الناتو العربي – الاسلامي” قد يتحول إلى مظلة جامعة تضع حدًا لسياسة رد الفعل وتفتح أفقًا جديدًا للتخطيط الجماعي. ومع ذلك، يبقى السيناريو مفتوحًا على احتمالين: إما أن نشهد ولادة حقيقية لهذا الحلف، تُترجم في صورة قوة عسكرية مشتركة وآليات تنسيق فعّالة، أو أن يظل المشروع مجرد شعار يتكرر كلما اشتدت الأزمات. لكن المؤكد أن ما بعد قصف الدوحة لن يكون كما قبله، وأن الشعوب العربية والاسلامية باتت أكثر إصرارًا على رؤية أفعال لا أقوال، وهو ما يجعل من مشروع “الناتو العربي الاسلامي” خيارًا لا مفر منه إذا أرادت الدول حماية أمنها ومستقبلها.