* احتفالات شعبية بمولد خير البرية
للاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف في الجزائر نكهة خاصة، لم تتغير بتغير الأزمنة، حيث تبقى مظاهر الفرحة عند الجزائريين محطة “مقدسة” لا يمكن أن تتجاوزها الظروف.
ومع أن القدرة الشرائية للعائلات الجزائرية البسيطة محدودة، إلا أن هذا لا يمنعها من تحضير عشاء وسهرة خاصة بالمناسبة وكذا اقتناء المواد النارية من مفرقعات وما شابه لأبنائها تحضيرا لليلة المولد.
موروث متنوع وقدسية ثابتة
يولي الجزائريون ذكرى المولد النبوي الشريف أهمية بالغة وقدسية تليق بمولد خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال موروث من العادات والتقاليد المرتبط بهذه المناسبة الخاصة جدا عند الجزائريين وكل العرب والمسلمين.
“المسقي” و”المختومة” على طاولة العائلات الورقلية
تحرص العائلات الورقلية على إحياء مشاهد متعددة من عادات اجتماعية متوارثة عبر الأجيال بمناسبة حلول المولد النبوي الشريف.
ويجمع عديد السكان المحليين على أن هذه المناسبة الدينية المقدسة فرصة لتعزيز جسور التواصل بين أفراد العائلة اقتداء بالسيرة النبوية الشريفة وهدي النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي يحث في أحاديث قدسية كثيرة على صلة الرحم وتوثيق وشائج المحبة الأسرية.
وتتعدد صور التحضير لإحياء مولد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام في أوساط العائلات الورقلية، والتي من بينها تحضير أطباق تقليدية تعد خصيصا لهذه المناسبة المباركة على غرار “المسقي” و”المختومة” و”السفوف” و”تاكظورت”.
وعشية استقبال المولد النبوي الشريف يتم جمع مبالغ مالية بين العائلات لاقتناء مستلزمات تحضير أطباق وحلويات المولد، حيث يلتئم شمل العائلة ليلة إحياء المولد حول مائدة العشاء المرصعة بأشهى الأكلات التقليدية والحلويات والمكسرات بأنواعها المختلفة، وهي السهرة العائلية المولدية التي عادة ما تكون مصحوبة بأباريق الشاي بالنعناع المحضر على الجمر.
وتبدي ربات البيوت اهتماما كبيرا بهذا الاحتفال، حيث بعد الانتهاء من مأدبة العشاء وتوجه الرجال إلى المساجد لحضور حلقات الذكر وترديد المدائح الدينية، يحرصن على تنشيط جلسات نسائية يرددن خلالها وبمشاركة الأطفال الصغار مدائح وقصائد دينية وأخرى من الشعر الملحون والتي تشيد كلها بأخلاق وخصال سيد الكائنات والأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن مظاهر وتقاليد الاحتفاء بمولد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أيضا بورقلة، تحرص الأمهات كذلك على تزيين أيدي الأطفال بالحناء ونشر عبق البخور بزوايا المنزل، وهو نوع من البخور الذي يحضر خصيصا لهذه المناسبة العظيمة ويسمى “بخور ليلة النبي”.
من جهتها، تحيي مساجد الولاية ومع حلول ربيع الأنوار هذه الذكرى العظيمة من خلال تنظيم حلقات تلاوة الذكر الحكيم وترديد قصائد دينية في مدح الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، إلى جانب تنشيط دروس دينية لفائدة المصلين يركز فيها الأئمة والوعاظ على جوانب من السيرة النبوية العطرة.
كما تنظم خلال هذه الليلة المباركة مسابقات دينية وتكريمات للفائزين وحفظة القرآن العظيم بمبادرة من المديرية الولائية للشؤون الدينية والأوقاف بالتنسيق مع المدارس القرآنية بالولاية.
وتقام كذلك عمليات ختان جماعي لفائدة أطفال العائلات المعوزة ليلة المولد النبوي الشريف بمبادرة من عديد الجمعيات الخيرية الناشطة.
وتشهد الأسواق اليومية بدورها بمناسبة حلول مناسبة المولد النبوي الشريف على غرار سوق الحجر بوسط المدينة حركة مكثفة للمتسوقين الذين يقبلون على اقتناء ما يحتاجون إليه من أغراض تخص هذه الذكرى الدينية الجليلة.
وفي هذا الجانب تعرف محلات بيع مستلزمات الحلويات إقبالا واسعا سيما للعنصر النسوي اللواتي يرغبن في تحضير الحلويات وكعكة المولد النبوي الشريف و”الطمينة” التي تحضر خصيصا للسهرة النبوية.
ويلاحظ في خضم هذه الأجواء المولدية انتشار لطاولات بيع الشموع بمختلف الأشكال والأحجام وكذا الحناء سواء على مستوى الفضاءات التجارية أو بعض الأحياء السكنية.
تحلية “سلو” و”الشدة التلمسانية” لإحياء المناسبة
تعد تحلية “سلو” و “الشدة التلمسانية ” من العادات الراسخة التي لا تزال العائلات التلمسانية تحافظ عليها لإحياء مناسبة المولد النبوي الشريف. وتعتمد المرأة التلمسانية في تحضير تحلية “سلو” التي تشتهر بها مدينة تلمسان على الطحين المحمص وخلطه بالمنكهات مثل “حبة الحلاوة والجلجلان والنافع وزريعة الكتان وزريعة البسباس،
ومختلف المكسرات” وتجمع بالزبدة الذائبة والسكر المطحون. وترفق تحلية “سلو” بتحلية أخرى تسمى “التقنتة” التي تحضر بالسميد المحمص والزبدة والعسل يرافقان صينية القهوة والشاي وبعض الحلويات التقليدية منها “الملوي” و”التريد”. كما يتزين الأطفال في هذه المناسبة بالألبسة التقليدية في مقدمتها “الشدة التلمسانية” و”الكاراكو” بالنسبة للبنات و”القشابية “و “الشاشية” بالنسبة للأولاد مع وضع الحناء وحمل الشموع وبعض الآلات الموسيقية الإيقاعية ” كالطبلة “و “البندير ” و “الدربوكة” يستعملونها خلال ترديدهم لمجموعة من المدائح والأناشيد الدينية عن النبي الكريم (ص).
وتجتمع العائلة التلمسانية وتلتف حول مائدة الإفطار لتذوق طبق “البركوكس” الذي يحضر بالخضار و”الفلفل الحار” و”رأس الحانوت” و”المشايخة” واللحم و “التعمير” الذي هو عبارة عن اللحم المفروم المنكه بالثوم والتوابل والبيض وغيرها.
ويتم تزيين البيت للاحتفال بالمولد النبوي الشريف ويعطر “بالتبخيرة” و “عود القماري” مع دعوة الأهل والأقارب للمشاركة في الاحتفالات التي كان يشرع فيها قديما منذ حلول أول يوم من شهر ربيع الأول بالزغاريد والمديح والتلاوة وتزيين الأطفال بالألبسة التقليدية وقيامهم بجولة عند الأقارب وجمعهم لمبلغ مالي بسيط. كما لا تزال تلمسان تتمسك بالموروث الثقافي لإحياء هذه المناسبة بإخراج الأطباق التقليدية و صينيات القهوة والشاي للمساجد والزوايا والتقاء سكان الحي الواحد من الرجال داخل المسجد وتلاوة القرآن الكريم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه وتكريم صغار حفظة القرآن الكريم بهدايا تحفيزية. وتحافظ كذلك كل من بلديات ندرومة و سبدو وأولاد ميمون على تنظيم كل سنة حفلا لفرق العيساوة لمدح النبي بقصائد دينية.
قسنطينة.. تمسك بالعادة مع تغيير تفاصيل الاحتفال
لا يزال سكان مدينة قسنطينة وضواحيها متمسكين بإحياء ذكرى المولد النبوي وفق عادات متجذرة إلا أن طابع الاحتفال بها تغير ما بين الأمس واليوم.
ففي الماضي كانت مدينة الصخر العتيق تستمر في إحياء هذه المناسبة الدينية طيلة أسبوع أي ابتداء من 11 ربيع الأول إلى 17 منه، حيث كان القسنطينيون يولون اهتماما بليغا للجانب الديني الرئيسي للذكرى الذي يقوم على العبادة والذكر وتمجيد خصال النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكانت الزوايا القسنطينية على غرار زاوية بن عبد الرحمان وسيدي راشد قبلة لشيوخ المنطقة الذين يعتكفون بها مصغين إلى حلقات الذكر والمدح وتلاوة وتجويد القرآن الكريم مضاهية بذلك المساجد التي تنظم بدورها مسابقات دينية وتكرم حفظة القرآن الكريم.
وفيما يتعلق بالجانب الدنيوي، فإن العائلات القسنطينية كانت تستعد على طريقتها للاحتفال بهذه الذكرى الراسخة في المجتمعات الإسلامية. فكانت النسوة تباشرن عملهن مع بزوغ الفجر، حيث تقول الحاجة فاطمة (80 سنة) تقطن بالبطحة العتيقة “كنت أستيقظ قبل أن ترسل الشمس أولى أشعتها وأدعو جاراتي إلى وسط الدار لنتجمع للتعاون على إعداد ألذ الأطباق المفضلة لهذه المناسبة وبكميات كبيرة على غرار التريد والشخشوخة ومن ثم نحتفظ بجزء منها لأهل الدار ونتصدق بالباقي، حيث نخرج قصعة ممتلئة بالتريد واللحم الشهي إلى المساجد أو أمام عتبة الدار حتى يتمكن عابرو السبيل من تذوقها”.
وبحلول المساء تضيف الحاجة فاطمة “كنا نسارع إلى تنظيف البيت وتعطيره بما طاب من البخور والمسك ثم نرتدي ملابس جديدة استعدادا لسهرة المولد التي تكون الحناء ملكتها فنزين بها الأيدي كما نشعل الشموع وندق الطبول ونؤدي مدائح دينية سوية في جو بهيج يفوح بعبق البخور على غرار (زاد النبي وفرحنا بيه)” ليتواصل السمر بالإصغاء إلى قصص الجدات والنكت التي تزيد الأجواء بهجة وفرحا.
وبحلول الصباح تواصل “نعد (الغرايف) و (القريوش) لنتلذذ بمذاقهما ونحن نحتفظ بذاكرتنا بتلك السهرة الجميلة التي تزيد في تآزرنا وتزرع المحبة في قلوبنا” ما يدل على الطابع التضامني لهذه المناسبة بين أفراد الأسرة وكذا المجتمع في الحي الواحد. وتشير الحاجة فاطمة إلى أن هذه المناسبة الدينية كانت مفضلة لدى البعض لختان أطفالهم والتصدق بأضاحي من طرف ميسوري الحال وإقامة سهرات على وقع طبول ومديح فرق “العيساوة” التي تنشط على غير العادة بمناسبة إحياء هذه الذكرى.
أما اليوم فالأمر تغير كليا ولو أن بعض العائلات القسنطينية لا تزال متمسكة ببعض العادات الموروثة عن الآباء والأجداد ابتهاجا بمولد المصطفى، غير أن طابع التضامن والتآزر الذي كان يجمع بين سكان الحي الواحد في السمر قد انقشع وتبدد. فللأسف لم نعد نرى اليوم على سبيل المثال تلك التجمعات في المنزل الواحد والولائم التي يدعى إليها الأحباب والرفاق والسهرات التي يتسامر فيها الأصحاب والأتراب. فاليوم الكل منشغل بشأنه وذكرى المولد تدق الأبواب في تباعد بين الأقارب والجيران.
فإن تمكنت أسرة ما من جمع أشتات أفرادها على مائدة واحدة، يكون “الثريد” سيدها فذاك أمر محمود للغاية لأنه لا يمكن تعميمه على كل الأسر القسنطينية التي أصبحت تحيي هذه المناسبة على طريقتها وذلك باقتناء ما أغرق الأسواق الشعبية من بينها “السويقة” من ألعاب نارية ومفرقعات ليدوي بها الشباب ليالي المولد النبوي الشريف.
بني عباس.. احتفائية تستحق التسجيل ضمن التراث الثقافي اللامادي
لا يمكن الحديث عن عادات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف دون الحديث عن بني عباس، حيث تقام أكبر احتفالية بالمناسبة عبر ربوع الوطن، فلا زالت الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف (ذكرى ميلاد النبي – محمد صلى الله عليه وسلم-) ببني عباس ( 240 كلم جنوب بشار) كمناسبة دينية وثقافية تحتفظ بخصوصياتها وتميزها سواء بالجزائر أو عبر دول المغرب العربي الكبير.
ويشارك سنويا آلاف الأشخاص في هذه التظاهرة المقدسة التي أصبحت واحدة من الاحتفالات الدينية الكبيرة التي ينتظرها بشغف كبير سكان الساورة ومختلف مناطق الوطن.
ويتم إحياء المولد النبوي الشريف بهذه المنطقة وفق التقاليد العريقة التي تعود إلى قرون عديدة مضت بمظاهر متنوعة من بينها طلي الأضرحة بمادة الجير الأبيض وأماكن العبادة الأخرى تكريما لأشراف هذه المنطقة من جنوب غرب البلد على غرار مؤسس المدينة سيدي عثمان غريب وإقامة احتفالات دينية محضة على غرار حصص يومية ( مدة 7 أيام) لترتيل وتجويد القرآن الكريم وحلقات الذكر عبر المساجد والمدارس القرآنية التي تساهم في إنجاح هذه المناسبة الدينية، كما أوضح باحثون محليون في التراث.
ويعكس إحياء هذه المناسبة الدينية التي تستحق حسب عديد الآراء، التصنيف بسجل التراث الثقافي اللامادي، العادات والتقاليد الدينية العريقة التي ليست لها علاقة إطلاقا بـ “الغلو ” أو “التطرف” بل يتعلق الأمر بالتشبث بالدين الإسلامي وبصاحب الرسالة السماوية محمد بن عبد الله (عليه الصلاة والسلام)، وترمز كذلك إلى البهجة والتضامن والسعادة سويا في الدائرة الأوسع التي تشمل العائلة والقصر والمجتمع المحلي أو المنطقة.
ويعتبر حضور هذا الاحتفال بمثابة أداء واجب من مخلص والقيام بدور فعال في حدث ديني وثقافي واجتماعي يميز التاريخ الإسلامي، كما أبرز هؤلاء الباحثين.
ويجري الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بحماس كبير بهذه المنطقة، حيث تبدأ الطقوس الخاصة بهذه المناسبة بترديد عشر (10) قصائد دينية في مدح الرسول الأعظم (صلى الله عليه و سلم) لاسيما منها “المولدية” و”البردة” و”الهمزية” وذلك عبر كل مساجد مدينة بني عباس والمناطق المجاورة لها .
كما يتم في إطار نفس الاحتفالات تنظيم ما يسمى “الحيبوس” المعروفة بـاحتفالية “لعبار” والتي تتمثل في وزن كميات من الدقيق الذي تقوم النساء بفتله من أجل تحضير الكسكسي للضيوف وغيرهم من الأوفياء مع ترديد أناشيد تتغنى بخصال رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم).
وبالموازاة مع ذلك، يتم كذلك ذبح جمل أو أكثر بالقرب من زاوية سيدي محمد بن عبد السلام ويوجه لحمه لتحضير “سلكة” (حلقة لتلاوة القرآن العظيم) والتي تنطلق بعد صلاة الظهر لتنتهي قبل صلاة العصر وتتزامن مع انتهاء حلقات الذكر الحكيم بسائر مساجد المدينة .
ويقوم خلال هذا اليوم تلاميذ مختلف المدارس القرآنية بالمنطقة برفقة مدرسيهم بزيارات لمختلف أضرحة الأشراف وترديد أناشيد دينية على غرار “نوبة” و “ترادا” خلال رحلتهم التي تأخذهم مباشرة إلى “المسرية” أو الساحة الكبرى “1 نوفمبر 1954” الواقعة بوسط بني عباس وذلك بعد صلاة العصر من أجل حضور حفل قراءة فاتحة الكتاب العظيم من طرف الحضور.
وبعد الانتهاء من قراءة الفاتحة، يشرع في التحية والسلام على الرسول الكريم في كل مكان من أجل الإعلان الرسمي للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، حيث تبدأ الاستعراضات لمختلف تشكيلات الفولكلور الشعبي للبارود وذلك إلى غاية الإعلان عن صلاة المغرب وهذا الاحتفال يعرف بـ “الفازعة”.
“الفازعة” في صلب الاحتفالات الشعبية بمولد خير البرية
تتميز احتفالية “الفازعة” بفسيفساء عديد الألوان وتأتي في صلب الاحتفال بمولد خير الأنام وتتم خلالها دعوة المئات من رجال البارود (أصحاب البارود) من مختلف قصور وبلديات ولايات جنوب غرب البلد سواء من طرف السكان أو الحركات الجمعوية التي تحمل على عاتقها تنظيم هذه الاحتفالية الشعبية وعلى رأسها الجمعية المحلية “السراج المنير”.
و”الفازعة” احتفالية قديمة حيث تنظم منذ أزيد من قرن من الزمن على مستوى الساحة الكبرى “المسرية” المزودة بمدرجات بأزيد من 500 مقعد.
وتفتتح مراسم هذه الاحتفالية العريقة وكما جرت العادة بتلاوة فاتحة الكتاب من طرف آلاف الأوفياء الحاضرين بهذه المناسبة ببني عباس.
وتعبر “الفازعة” عن مشاعر الفرحة والافتخار لدى المحتفلين بميلاد خاتم الأنبياء والمرسلين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وتشكل علامة إخلاص لأشراف المدينة
وكذا الأجداد، حسب ما يروي عديد الباحثين المحليين وسكان بني عباس.