شعار المقاومة يتحول إلى واقع ميداني في غزة

الموت أو الأسر.. القسام تُربك الاحتلال بعمليات أسر نوعية في حي الزيتون

الموت أو الأسر.. القسام تُربك الاحتلال بعمليات أسر نوعية في حي الزيتون
  • كمائن غزة تحوّل الاجتياح إلى كابوس عسكري وسياسي

  • الجيش الإسرائيلي يفعّل بروتوكول “هنيبال” ويأمر بالانسحاب

في قلب العدوان الوحشي على غزة، وبين دويّ الانفجارات وصمت العالم المتواطئ، خرجت المقاومة الفلسطينية لتعلن أن معركة الاجتياح ستكون ساحة اختبار حقيقي لصلابة المقاتلين وإبداعهم الميداني.

شعار “نُذكّر من ينسى… الموت أو الأسر” تحوّل إلى عقيدة عملية تترجم في أرض المعركة، حيث استطاعت كتائب القسام أن تُسقط صورة الجيش الذي لا يُقهر، وتكشف للعالم أن إرادة الصمود قادرة على صناعة التوازن مع آلة الحرب المدججة بالدعم الغربي. هكذا صارت المقاومة لا تدافع عن غزة فحسب، بل تُعيد صياغة معادلة الردع في وجه الاحتلال، مثبتة أن الاجتياح مهما اتسع لا يملك إلا أن ينكسر على صخرة المقاتلين.

 

ليلة الأسر.. حين قلبت المقاومة المعادلة

ليلة سقوط الجنود الصهاينة في قبضة كتائب القسام تحوّلت إلى علامة فارقة غيّرت مسار الاجتياح برمّته. فبينما كانت قيادة الاحتلال تروّج لانتصارات ميدانية سريعة، جاء خبر مقتل وإصابات وأسر الجنود ليكشف هشاشة هذه السردية وليؤكد أن الميدان لا يُدار بالتصريحات بل بالدماء والتضحيات. لقد نجحت المقاومة في توجيه ضربة موجعة أظهرت مدى قدرتها على التسلل إلى قلب المعركة وإرباك أقوى جيش في المنطقة، لتثبت مجددا أن معادلة الردع لم تعد حكرا على الاحتلال. اللافت أن العملية جاءت متزامنة مع تصعيد الاحتلال لمحاولاته اختراق مدينة غزة بغطاء جوي كثيف، وهو ما يعكس براعة المقاتلين في اختيار توقيت الضربة ورسم خطوط الاشتباك. فقد حوّلت القسام الليل إلى “جحيم حقيقي” كما وصف الإعلام العبري نفسه، بعدما فشلت القوات الخاصة في التقدّم، وسقط جنودها بين قتيل وجريح وأسير. وهنا برز البعد الرمزي للشعار الذي رفعته المقاومة “الموت أو الأسر”، إذ أصبح الاحتلال أمام خيارين أحلاهما مر: إمّا فقدان جنوده أحياء في قبضة المقاومة، وإمّا قتلهم على أيدي رفاقهم تحت ذريعة منع وقوعهم في الأسر. هذا المشهد كشف مأزقا استراتيجيا للجيش الإسرائيلي، الذي وجد نفسه عاجزا عن حماية أفراده في الميدان رغم تفوقه التكنولوجي والاستخباراتي. فبدلا من أن يكون الاجتياح وسيلة لفرض السيطرة وكسر المقاومة، تحوّل إلى فرصة للأخيرة لتأكيد قدرتها على إدارة المواجهة بأسلوب استنزاف طويل الأمد. لقد حملت صورة الأسرى رسالة أبعد من البعد العسكري، إذ مثلت “انكسارا معنويا” أصاب الجنود وعائلاتهم وامتد إلى الرأي العام الصهيوني الذي بدأ يتساءل عن جدوى استمرار هذه الحرب المكلفة. والأهم من ذلك أن العملية كانت جزء من عقيدة متكاملة تبنّتها المقاومة منذ سنوات، تقوم على نقل المعركة إلى داخل وعي العدو وإجباره على استحضار كوابيس الأسر في كل خطوة يتقدمها. فكما شكلت صفقات التبادل السابقة محطات تاريخية في مسيرة الصراع، فإن أسر الجنود الجدد يفتح الباب أمام احتمال ولادة معادلات جديدة، ويؤكد أن المقاومة “فاعل استراتيجي” يرسم مستقبل المعركة على طريقته.

 

كمائن الزيتون والصبرة.. المقاومة تصوغ ميدانها

في حيّ الزيتون وحيّ الصبرة شرقي غزة، كتبت المقاومة فصلا جديدا من تكتيكاتها العسكرية التي قلبت الموازين على الأرض. فالمعارك تحوّلت إلى سلسلة كمائن محكمة استدرجت قوات الاحتلال إلى “مسرح معدّ سلفا”، حيث الانفجارات والكمائن المباغتة تحاصر الجنود من كل جانب. لقد برهنت كتائب القسام على قدرتها في فرض نمط قتالي مختلف، يجعل من كل شارع وزقاق مصيدة للجنود الصهاينة، ويحوّل الأحياء الشعبية إلى ساحات مواجهة تتفوّق فيها الإرادة على العتاد. الهجوم على ناقلة الجند المدرعة من نوع “نمر” كان أحد أبرز الأمثلة على دقة التخطيط. فبانفجار عبوة ناسفة واحدة، سقط سبعة جنود بين قتيل وجريح، وهو ما كشف عن مدى هشاشة الآلة العسكرية التي طالما رُوّج لها باعتبارها الأكثر تحصينا في العالم. الإعلام العبري نفسه، أقرّ بأن ما جرى في الزيتون هو “الحدث الأمني الأخطر منذ طوفان الأقصى”، في اعتراف صريح بأن المقاومة باتت تملك مفاتيح زمام المعركة، وأن تفوقها لا يُقاس بالعدد أو العتاد، بل بقدرتها على الابتكار والمباغتة. ولم تقف العملية عند حدود الانفجارات فحسب، إذ امتدت إلى استهداف مروحيات الإجلاء التي هرعت لإخراج المصابين. فقد واجهت هذه الطائرات وابلًا كثيفًا من النيران حال دون تنفيذ مهمتها بشكل كامل، مما أجبر القيادة العسكرية على تكرار عمليات الإخلاء في ظروف أكثر خطورة. هذه المشاهد فضحت ضعف الجيش في إدارة معركة المدن، وأظهرت كيف حوّلت المقاومة السماء نفسها إلى ساحة استنزاف إضافية، حيث لم يعد التفوق الجوي كافيًا لحماية الجنود أو إنقاذهم. الأهم أن هذه الكمائن، حملت رسالة استراتيجية مزدوجة: من جهة أكدت أن الاحتلال مهما تقدّم داخل غزة فإنه يبقى عرضة للاستنزاف والانكسار في أي لحظة، ومن جهة أخرى عززت ثقة الشارع الفلسطيني بقدرة مقاوميه على إدارة معركة طويلة المدى. إن تحويل أحياء مثل الزيتون والصبرة إلى “قلاع مقاومة” هو تأكيد على أن المقاومة قادرة على صياغة الميدان بما يخدم رؤيتها، وأن الاحتلال كلما ظنّ أنه يسيطر على الأرض وجد نفسه في مواجهة كمين جديد يبدّد أوهام التفوق.

 

ارتباك القيادة الإسرائيلية.. من الهجوم إلى الانسحاب

لم يكد الاحتلال يلتقط أنفاسه بعد سلسلة الكمائن في الزيتون والصبرة، حتى وجد نفسه أمام مأزق داخلي في إدارة المعركة، إذ تهاوت سردية “الاجتياح السريع” تحت وقع الضربات المتلاحقة. فبدلاً من مشهد تقدم الوحدات العسكرية إلى عمق المدينة كما خططت القيادة السياسية والعسكرية، فرضت المقاومة واقعا معاكسا أجبر الجيش على الانسحاب وإعادة تقييم خياراته. لقد انتقل الاحتلال من وضعية الهجوم إلى حالة دفاعية مرتبكة، وهو ما شكل انعكاسا واضحا لفشل استراتيجيته الميدانية. أحد أبرز مظاهر هذا الارتباك كان اللجوء إلى تفعيل “بروتوكول هنيبال”، الذي يقوم على قتل الجنود ومنع وقوعهم أسرى لدى المقاومة، حتى لو كان الثمن تصفيتهم بنيران صديقة. هذا القرار بحد ذاته يعبّر عن مدى الخوف الذي تسببه معادلة الأسر داخل العقل العسكري الإسرائيلي، حيث يشكّل وقوع جندي واحد في قبضة المقاومة تهديدا أكبر من خسائر ميدانية واسعة. لكن المفارقة أن تفعيل البروتوكول زاد من صورة الارتباك، وأظهر الاحتلال كقوة عاجزة عن حماية جنودها، تضحي بهم قبل أن تسمح للمقاومة بتحقيق إنجاز جديد. وفي موازاة ذلك، كشفت مشاهد الإجلاء الفاشلة عبر المروحيات حجم المأزق العملياتي الذي يعيشه الجيش. فالمروحيات التي يفترض أنها الملاذ الأخير للجنود المصابين، وجدت نفسها هدفا مباشرا لنيران المقاومة، مما دفع قيادة الأركان إلى اتخاذ قرار غير مسبوق بسحب وحدات من حي الزيتون وإعادتها إلى الثكنات. هذا الانسحاب إقرار عملي بأن الاحتلال غير قادر على الاحتفاظ بمواقعه، وأن المقاومة استطاعت أن تفرض منطقها وتحدد سقف حركة العدو. الأهم أن حالة الارتباك لم تتوقف عند حدود الميدان، بل انسحبت على المستوى السياسي في تل أبيب، حيث تعالت الانتقادات حول جدوى الاستمرار في الحرب وخطورة التورط في غزة. لقد تحولت العملية من مشروع سياسي لرئيس الوزراء نتنياهو وحكومته إلى عبء داخلي يهدد شعبيته ويعمق الخلاف مع المؤسسة العسكرية. هكذا استطاعت المقاومة أن تنقل المعركة من جبهات القتال إلى مراكز القرار في الكيان، لتثبت أن “الاجتياح” الذي أريد به إسكات غزة، صار اختبارًا قاسيًا يُعرّي هشاشة الاحتلال أمام العالم.

 

أثر نفسي وسياسي

منذ اللحظة الأولى لإعلان المقاومة أسر جنود صهاينة في غزة، بدا واضحا أن الصدمة لم تقتصر على الميدان، بل اخترقت الجبهة الداخلية للكيان بكاملها. فالأسر بالنسبة للإسرائيليين هو كابوس جماعي يعيد إلى الأذهان صورًا مريرة من صفقات تبادل سابقة كسرت هيبة الجيش وأظهرت عجزه عن استعادة جنوده بالقوة. لقد تحولت صور الجنود الأسرى إلى “جرح مفتوح” في الوعي الصهيوني، يذكّر كل أسرة بأن أبناءها قد يكونون الحلقة التالية في سلسلة الأسر، وأن الدولة التي تدّعي الحماية عاجزة عن الوفاء بوعودها. هذا البعد النفسي انعكس بحدة في وسائل الإعلام العبرية التي تعاملت مع الحادثة بحذر شديد تحت رقابة عسكرية مشددة. ومع ذلك، تسربت تقارير تتحدث عن فقدان الاتصال مع وحدات كاملة، وعن عائلات تعيش حالة هلع حقيقية خشية أن يكون أبناؤها بين المفقودين. هذه الحالة النفسية، تضاعفت بفعل التناقض بين الرواية الرسمية ومحاولات التعتيم، وبين شهادات الجنود المصابين الذين نقلوا روايات عن “مجزرة ميدانية” وكمائن غير مسبوقة. وهكذا وجد الاحتلال نفسه أمام أزمة ثقة داخلية، حيث لم يعد المواطن يصدق ما يُعلن من بيانات عسكرية. سياسيا، شكّل ملف الأسرى ورقة ضغط ثقيلة على حكومة نتنياهو، التي واجهت انتقادات من داخل المؤسسة العسكرية نفسها. فالخوف من تكرار سيناريو صفقات التبادل، على غرار صفقة شاليط، جعل القيادة في مأزق مزدوج: فمن جهة هي عاجزة عن إنقاذ جنودها، ومن جهة أخرى أي تفاوض مع المقاومة سيُعدّ هزيمة سياسية مدوية. لذلك جاء خطاب أبو عبيدة ليزيد الطين بلة، حين أكد أن “الأسرى سيبقون مع مقاتلينا في ساحات المواجهة”، وهو ما أوصل رسالة واضحة مفادها أن أي حل لن يكون إلا وفق شروط المقاومة. أما على مستوى الرأي العام الإسرائيلي، فقد بدأت تتشكل حالة غضب واحتقان ترجمتها تظاهرات لعائلات الأسرى تطالب الحكومة بالتحرك الفوري. لكن ما زاد من تعقيد الموقف، أن نتنياهو اختار المضي في الحرب متجاهلا الأصوات الداخلية، في خطوة اعتُبرت مقامرة سياسية تهدد بتفجير الوضع الداخلي أكثر. لقد استطاع الأسر أن يفتح شرخا عميقا بين القيادة والجمهور، ويضع الاحتلال في مواجهة مأزق لم يعرف له مخرجا: إما الاستسلام لشروط المقاومة أو الغرق في مستنقع حرب لا أفق لها.

 

الموت أو الأسر.. عقيدة مقاومة لا تنكسر

شعار “الموت أو الأسر” هو تعبير عن عقيدة راسخة تشكّلت في وعي المقاومة منذ عقود. هذا الشعار يستند إلى قناعة أن المقاتل الفلسطيني حين يواجه الاحتلال، لا يرى أمامه سوى خيارين: إما أن يقدّم روحه شهيدًا، أو أن يحوّل العدو نفسه إلى ورقة قوة بوقوعه في الأسر. وبذلك يصبح الوجود في الميدان فعلا مزدوجا؛ إما انتصار بالدم أو انتصار بالأسر، وكلاهما يقوّض صورة الجيش الذي حاول ترسيخ أسطورة “التفوق الذي لا يُقهر”. هذه العقيدة تتحوّل إلى منظومة متكاملة من التدريب والإعداد والإيمان بالهدف. فالمقاومة التي خططت لعمليات الأسر تتحرك وفق حسابات دقيقة تُدرك جيدًا ما تعنيه هذه العمليات على المستوى العسكري والسياسي. كل أسير في يد المقاومة يُعد “رصيد استراتيجي” يفتح الباب أمام معادلات تبادل، ويشكّل نقطة ضعف دائمة في خاصرة الاحتلال. وهذا ما يجعل خيار الأسر مصدر قلق دائم للقيادة العسكرية والسياسية في تل أبيب. واللافت أن هذه العقيدة لم تنكسر رغم سنوات من الحصار والحروب. فالمقاومة التي خرجت من تحت الركام أكثر صلابة، أثبتت أن إرادتها لا تُقاس بالموارد المادية، بل بعمق الإيمان بعدالة قضيتها. وهكذا، فإن كل عملية أسر أو كمين ناجح ينظر لها كرسالة استراتيجية للعالم بأن غزة الصغيرة جغرافيا، الكبيرة بعنادها، قادرة على إعادة صياغة قواعد الاشتباك وفرض إرادتها على خصم يمتلك أحدث ما صنعته الترسانات الغربية.