-
مديونية وبطالة وتضخم.. ثالوث يهدد مملكة “أمير المؤمنين”
-
المخزن يقترض والشعب يدفع الفاتورة
في الوقت الذي تسوّق فيه السلطات المغربية لـ”إنجازات وهمية” و”نموذج تنموي جديد” و”رؤية اقتصادية واعدة”، تعصف بالشارع موجات متلاحقة من الغلاء، البطالة، والانكماش الاجتماعي، “مملكة الإحصائيات” تبدو في الظاهر وكأنها تسير على سكة الإصلاح والنهضة، لكن خلف الأرقام المعلنة تختبئ معاناة شعبية تتعمّق يوما بعد آخر.
فالمؤشرات الرسمية التي تتحدث عن نسب نمو إيجابية، وسيناريوهات تعافي اقتصادي، تقابلها تقارير مستقلة تُظهر صورة قاتمة عن واقع الفقر، تفكك الطبقة الوسطى، وتفاقم المديونية. إنها المفارقة التي تكشف عن “هشاشة بنيوية” في الاقتصاد المغربي، وتفضح “رواية الإنجازات” التي يحاول المخزن ترسيخها في الوعي الجمعي، وسط صمت شعبي بدأ يتحوّل تدريجيا إلى احتجاجات متفرقة، وخطاب نقابي ساخط، وتحذيرات اقتصادية متكررة من انفجار اجتماعي محتمل.
في مملكة “أمير المؤمنين”، لا يكاد يمرّ شهر دون أن تعلن فيه الحكومة المغربية عن انجازات وهمية وتُطلق مؤشرات “تفاؤل اقتصادي” أو “بشائر تنموية” عبر تقارير إعلامية ومناسبات رسمية. فالمغرب يقدَّم كقصة “إقلاع اقتصادي” في منطقة مضطربة، تارة تحت مسمى “النموذج التنموي الجديد”، وتارة أخرى ضمن رؤية 2035 الطموحة. لكن ما يروَّج على الورق، لا يجد امتدادا ملموسا في الشارع. بل إن الواقع كثيرا ما يكشف “مفترق طرق” بين ما يعلن وما يعاش.
ورغم الإشادات المتكررة من بعض المؤسسات المالية، فإن التقارير المحلية والدولية المستقلة تقلب المعادلة، مبرزة خللا بنيويا في التوزيع والعدالة الاجتماعية. تقرير المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024، مثلا، تحدّث عن ركود في الدخل الفردي وتآكل في القدرة الشرائية، في وقت كانت فيه التصريحات الحكومية تُبشّر بارتفاع الناتج الداخلي الخام. هذه المفارقة تعزز الانطباع العام بأن “رواية الإنجازات تُصنع في مخابر المخزن… بينما الأزمة تتحملها جيوب المواطنين”. ويذهب بعض المحللين إلى اعتبار هذا التناقض بين الخطاب والواقع نوعا من “التجميل المؤسسي” الذي يهدف إلى احتواء الغضب الشعبي ومنح النظام المغربي هامشا من الشرعية التنموية أمام الخارج. غير أن هذا الأسلوب في إدارة الصورة قد ينجح مرحليا، لكنه لا يصمد طويلا أمام أرقام البطالة والفقر وتفكك الطبقة الوسطى. فحين يصبح الفرق بين الأرقام الرسمية و”خبز المواطن” واسعا، تنهار كل السرديات مهما كانت متقنة الصياغة.
تضخم مستمر.. والأسعار تطارد المواطن
سنة 2025 لم تكن سوى امتداد لسلسلة من السنوات الأخيرة التي عرفت خلالها الأسعار صعودا متكررا خنق القدرة الشرائية للمغاربة. فقد سجلت المندوبية السامية للتخطيط ارتفاعا في مؤشر أسعار المستهلكين بنسبة 2% على أساس سنوي، وهو أعلى معدل منذ عام، مدفوعا خصوصا بارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 3.3%. ورغم حديث بنك المغرب عن تراجع نسبي في التضخم مقارنة بسنوات الذروة، إلا أن التوقعات تشير إلى استمرار الضغوط خلال ما تبقى من عام 2025 بفعل الجفاف والتقلبات العالمية. هذا “التضخم المقنّع” لا ينعكس فقط في النسب الرسمية، إذ بات يظهر جليا في الأسواق والمحلات، حيث بات المواطن المغربي يضطر إلى تقليص استهلاكه أو التنازل عن حاجيات أساسية لضبط ميزانيته المتآكلة. وهو ما عبّر عنه الخبير المغربي محمد بن شقرون، حين قال إن “القدرة الشرائية دخلت مرحلة الاحتضار البطيء”، في ظل ضعف الأجور وغياب تدخلات فعالة من الدولة لحماية المستهلك. وبين تضخم معلن، وتضخم غير معلن، يتفاقم الشعور بالاحتقان لدى شريحة واسعة من المواطنين، الذين أصبحوا يعيشون حالة من “الغليان الصامت”، في انتظار أن تتحرك الحكومة بما يتجاوز التصريحات، نحو إجراءات ملموسة تُعيد شيئا من التوازن المفقود في السوق.
الشارع يغلي ولكن بصمت
وإذا كانت المؤشرات الاقتصادية تضع المغرب أمام مرآة صادمة، فإن الانعكاسات الاجتماعية لا تقل خطورة. ففي ظل “أزمة معيشية متصاعدة”، يزداد الاحتقان الشعبي بشكل تدريجي، حتى وإن لم ينفجر في مظاهرات واسعة، فإن الاحتجاجات الصامتة التي تجتاح قطاعات عدة تعبّر عن “غليان مكبوت تحت السطح”.
خلال السنوات الثلاث الماضية، دخل أكثر من 3.2 مليون مغربي دائرة الفقر أو الهشاشة، وفق معطيات رسمية، ما رفع معدل الفقر من 1.7% إلى 4.9%، بينما لا تزال 71.8% من الأسر المغربية تعيش بدخل أقل من المتوسط الوطني، مع تزايد الفجوة بين العالمين الحضري والقروي. هذه الأرقام “تصفع رواية الإنجازات” التي يتغنى بها نظام المخزن وتؤكد أن الشرائح الضعيفة تُركت لمصيرها في مواجهة التضخم، وارتفاع الأسعار، وتراجع فرص التشغيل.
في المقابل، تتصاعد أرقام البطالة بشكل مقلق، إذ تجاوز عدد العاطلين 1.6 مليون شخص بمعدل وطني بلغ 13.3%، في حين بلغت بطالة الشباب نحو 36.7%، وبطالة النساء قرابة 19.4%. كل ذلك يحدث وسط “عجز حكومي صارخ عن خلق مناصب شغل كافية” أو حماية المقاولات الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد المحلي، وأكثر من 50 ألفا منها أغلقت أبوابها منذ 2021، ما عمّق حالة القلق الاجتماعي.
ديون خارجية متراكمة
وإذا كان التضخم والواقع الاجتماعي قد أعاد فتح جراح المغاربة، فإن عبء المديونية يكشف عن عمق الأزمة البنيوية التي تخنق الاقتصاد المغربي. فمن أجل “تمويل المشاريع والبرامج التنموية”، لجأت الحكومة إلى الاقتراض الخارجي بكثافة، حتى بلغ الدين الخارجي أكثر من 45.6 مليار دولار سنة 2023، واضعا المغرب في المرتبة الرابعة إفريقيا من حيث حجم الديون، وفق تقرير “أفريكسيم بنك”. لكن ما يبدو خيارا لإنعاش الاقتصاد، تحول إلى فخ حقيقي. فمع ارتفاع أسعار الفائدة عالميا، قفزت كلفة خدمة الدين إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغت فوائد الديون نحو 27.5% من الإيرادات العامة سنة 2024، مقارنة بـ6.8% فقط سنة 2008. هذا التحول “يستنزف خزينة الدولة ويضيّق هامش الإنفاق على القطاعات الاجتماعية الحيوية”، ما يعمّق الشعور العام بانفصال السياسات المالية عن حاجات المواطنين. في هذا السياق، تحذر منظمات مدنية مثل جمعية “أطاك المغرب” من أن البلاد دخلت دوامة جديدة من التبعية المالية، خصوصا بعد إلغاء سقف الاقتراض الخارجي. ويرى مراقبون أن المديونية أصبحت “أداة ضغط سياسي واقتصادي” تحد من استقلالية القرار التنموي، وتعمّق هشاشة نموذج اقتصادي موجه نحو الخارج أكثر من الداخل.
المخزن يقترض والشعب يدفع الفاتورة
الأزمة المالية البنيوية للمغرب تنذر بما هو أخطر. فالمملكة غارقة في “حلقة مفرغة من الاستدانة الخارجية”، هذه المديونية المتزايدة تُبرّر رسميا بتمويل مشاريع تنموية أو مجابهة صدمات عالمية، لكن في واقع الأمر، ما يُقلق هو توجيه جزء من هذه القروض لبناء ملاعب أو تلميع الصورة الخارجية، أو حتى شراء ذمم من أجل ترويج لإنجازات وانتصارات وهمية في وقت “تئن فيه الطبقات الفقيرة من الأسعار والفواتير”. الأدهى أن فوائد الدين تلتهم اليوم ما يزيد عن ربع الإيرادات العامة، ما يعني أن المواطن المغربي يدفع من قوته لتغطية عجز الحكومات. ومع استمرار تحرير أسعار الطاقة، اختفى الدعم كليا منذ 2015، فارتفع سعر لتر الديزل إلى أكثر من 15 درهما، وجنت شركات التوزيع أرباحا فاقت 4.5 مليار دولار في ظرف سنوات قليلة. أما المواطن، فبقي يواجه الغلاء وحده، دون آليات حمائية أو شبكات دعم اجتماعي فعّالة، وكأن “المخزن يقترض… ثم يطلب من الشعب دفع الفاتورة”.
“احتجاج مؤجل” قابل للانفجار
وبالتوازي مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها المملكة، تتشكل ملامح احتجاج واسع النطاق، وإن بدا مؤجلا في الظاهر.
فالمؤشرات كلها توحي بأن الشارع المغربي يعيش حالة غليان صامت، يتراكم تدريجيا على وقع ارتفاع الأسعار، وانهيار القدرة الشرائية، وازدياد معدلات البطالة، خاصة في أوساط الشباب والنساء. هذه العوامل مجتمعة تُنتج ما يمكن وصفه بـ”الهدوء الذي يسبق العاصفة”، حيث لا يستبعد أن تنفجر موجة احتجاجات فجائية، كما حدث في مراحل سابقة. اللافت في هذا السياق، أن مختلف التقارير النقابية والحقوقية وحتى البيانات الرسمية بدأت تحذر بشكل غير مباشر من هذا “الاحتقان المكتوم”، الذي لا يلبث أن يعبّر عن نفسه بين الفينة والأخرى عبر احتجاجات قطاعية متفرقة أو حركات رمزية في الشارع. هذا النوع من الاحتجاجات، يكشف عن انسداد قنوات التعبير الفعّال، ما يحوّل التذمر الشعبي إلى طاقة تراكمية قابلة للانفجار في أي لحظة. وفي غياب إجراءات ملموسة تلامس هموم المواطن المغربي، وتستجيب لمطالبه الأساسية، فإن صمته لن يكون إلى الأبد. فكل تأجيل في معالجة الأوضاع لا يوقف الغضب، بل يؤججه. و”الاحتجاج المؤجل” قد يكون أكثر خطورة من الانفجار الفوري، لأنه يأتي عادة محمّلا بخيبات متراكمة، وشعور عام بأن لا شيء سيتغيّر إلا بالصوت المرتفع. كل هذا يكشف، أن الأزمة أعمق من مجرد مؤشرات ظرفية؛ هي أزمة نموذج تنموي يتعثر تحت وطأة التضخم، والمديونية، والتفاوت الاجتماعي. وفي هذا السياق، تبدو “مملكة الإحصائيات المتضاربة” أمام حاجة مُلحّة لمصالحة الواقع، إذ لا تكفي الشعارات ولا أرقام الإنجازات المعزولة لطمس معاناة الشارع. فالاستمرار في تجاهل هذه الحقائق، سيؤدي نحو أزمة ثقة لا تُداوى لا بالأرقام، ولا بالوعود ولا حتى بالإنجازات الوهمية.
م. ع