لم يمضِ أكثر من مائة عام على ظهور الإسلام، حتى شرع المسلمون في العِلم على تدوين العلوم الشرعيَّة ودراسة العلوم الطبيعية، حتى نبغ منهم علماء، أجمع المؤرخون في الشرق والغرب على السواء: أن دراساتِهم ومصنَّفاتهم كان لها أكبر الأثر في نموِّ الثقافة العالمية وازدهارها في عالمنا المعاصر. فلما اتَّسعتِ الدولة الإسلامية، واستقرَّت أمورها في العصر العباسي الأول، وضمَّت إليها شعوبًا متعددة، أبرز علماءُ هذه الشعوب مواهبَهم، فأقبل الفرس – بعد أن أحسن الخلفاء العباسيُّون معاملتَهم – على بغداد بعد تأسيسها، وأقاموا واستقرُّوا فيها، وكان الفرس قد بلغوا درجةً كبيرة من التقدُّم في مضمارِ الحياة الثقافيَّة، ودفَعهم اعتناقُ الإسلام والاندماج في الحياة العامة إلى تعلُّم اللغة العربيَّة، فنقلوا خُلاصةَ معارفهم من الفارسية إلى العربية، وصنَّفوا مصنفاتٍ قيِّمة في العلوم العربية والدينية والطبيعية. ومن أسباب تَقدُّم الحياة الثقافيَّة في الدولة الإسلامية أن أهل الذمة حظوا برعاية الخلفاء من بني العباس، وقدَّروا ذوي المواهب منهم، وبذلك أتيحت لهم الفرصة لإبراز مقدرتِهم العلميَّة، وكان لمعرفتِهم باللغات الأجنبية – خصوصًا اليونانيَّة والسريانية – سبب في اعتماد الخلفاء عليهم في حركة الترجمة إلى اللغة العربية. ولما اتَّسع نِطاق العِلم، ظهرت الحاجة إلى الاستفادة من العلوم التي تَوصَّل إليها المسلمون في العصر العباسي الأول، فقسَّم العلماء العلومَ إلى نقليَّة تتَّصِل بالقرآن الكريم، وتشمل: “علومَ التفسير والقراءات، وعلم الحديث والفقه، وعلم الكلام، وعلوم اللغة: كالنحو والصرف والشعر والبيان، والنوع الثاني من العلوم يُسمَّى العلوم العقليَّة، ويشمل الفلسفة والطب، وعلم النجوم والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والرياضيات”.