مرت سنوات حتى نسي العالم العربي المسلسلات المكسيكية المدبلجة للعربية، ثم ما لبثت أن ظهرت صرعة المسلسلات التركية المدبلجة لتدس السم في العسل، وفق مراقبين. ويثير انتشار المسلسلات التركية
على الشاشات العربية خلال العقدين الأخيرين الكثير من التساؤلات حول مستواها الفني والفكري والدرامي وحول ما قدمته للمجتمعات العربية.
رعاية رسمية
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقاء تلفزيوني في مارس 2017 في إجابة عن سؤال حول رأيه في مسلسل “قيامة أرطغرل”، إنه علينا أن نكتب حكايتنا نحن أولا، في أثناء جولتي لدول الخليج سمعت الكثير من المديح لمسلسل أرطغرل”، معتبرا أن الحفاظ على الميراث التاريخي لتركيا هو “دين على جميع الأتراك”.
وأضاف “أرطغرل كان جوابا صارما، فعندما يستوحي الإلهام من تاريخنا نؤمن أن مستقبلنا سيكون مليئا بالحرية”.
وخلصت دراسة أجراها باحثون من مركز الدراسات الشرقية التابع لجامعة بانديون للعلوم السياسية والإدارية في أثينا، إلى أن المسلسلات التركية التي انتشرت في الشرق الأوسط وفي منطقة البلقان، هي “جزء من القوة الناعمة التي تستعملها تركيا لتحسين صورتها بين شعوب المنطقة”.
ويواصل المسلسل التاريخي التركي “قيامة أرطغرل” جذب أنظار المشاهد العربي، مع استمرار عرضه في موسمه الثالث، إذ يتابعه العشرات من ملايين المشاهدين في المنطقة العربية مترجما أو مدبلجا، عبر شاشات التلفزيون أو مواقع على شبكة الأنترنت.
ويتناول المسلسل سيرة أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية، في سياق رحلة البحث عن أرض يستقر فيها مع قبيلته لإنهاء معاناتهم وتنقلاتهم، بعد مرحلة طويلة من الخطر وغياب الأمن والبحث وعدم الاستقرار.
وفي فيفري 2017، بدأت قناة “تي. أر. تي1” (TRT1) التركية عرض أولى حلقات مسلسل “عاصمة عبد الحميد”، أسبوعيا، وهو يوثق لأبرز الأحداث في الأعوام الـ13 الأخيرة (1896-1909) من حياة السلطان عبد الحميد الثاني (ولد عام 1842 في إسطنبول)، وحكم 33 عاما.
قبلها نجح أردوغان في إثارة “أزمة مفتعلة” حول مسلسل “القرن العظيم” أو ما يعرف في العالم العربي باسم “حريم السلطان”، ودافع عن السلطان سليمان القانوني قائلا إن “حياة السلطان لم تكن محصورة بين الخمر والنساء، بل إنه كان على جواده محاربا على مدى ثلاثين عاما”.
وحاول أردوغان أن يظهر في صورة “المحافظ” الرافض لصورة السلطان بين “حريمه”. الحقيقة أن هذه الصورة محبوكة بدقة، فهي طُعم لاستدراج المشاهد العربي للإدمان على المسلسلات التاريخية من بوابة “إثارة الغرائز”، فصناعها يعون جيدا أن المجتمعات العربية في معظمها مجتمعات مكبوتة.
وحين وصل أردوغان إلى السلطة في تركيا كان يعرف جيّدا أن لديه مشروعا إقليميا يتوجّب أن يشمل إعادة بناء القوة الناعمة التركية، فالجيش التركي لا يمكنهُ الذهاب إلى حيث يريد ولكن الشاشة التركية يمكنها أن تتسع لتشمل المنطقة المجاورة، ثم تتسع لتشمل العالم بكامله.
وقد خلصت دراسة أكاديمية، أجراها باحثون من مركز الدراسات الشرقية التابع لجامعة بانديون للعلوم السياسية والإدارية في أثينا، ونشرتها وكالة الأناضول التركية إلى أن المسلسلات التركية التي انتشرت مؤخرا بشكل كبير في الشرق الأوسط وفي منطقة البلقان، هي “جزء من القوة الناعمة التي تستعملها تركيا لتحسين صورتها بين شعوب المنطقة”.
يذكر أن مصطلح “الحرب الناعمة” أطلقه أول مرة جوزيف ناي مساعد وزير الحرب الأميركي في عهد بيل كلينتون في كتابه الشهير “القوة الناعمة”، و”هي أحد أشكال الحروب اللاعسكرية، التي تهدف إلى تغيير الهوية الثقافية للعدو بالإقناع بدل الإرغام واستعمال القوة”.
ويتجلى هذا المفهوم في أوضح أشكاله وأهدافه ضمن نموذج توظيف الدراما التركية في العالم العربي، بما يخدم أهداف السياسة الخارجية التركية.
قالت الباحثة بانايوتا كافاثاس إن تصدير المسلسلات التركية يعدّ جزءا من سياسة تركيا الخارجية، وإن سياسة تركيا في تصدير مسلسلاتها إلى المنطقة العربية تضمن في السنوات الأخيرة دمجا للمبادئ الإسلامية مع الحياة العصرية.
“حريم السلطان” مسلسل “إثارة الغرائز”
وفي دراسة أجرتها وزارة الثقافة التركية تقول إنّ أعمال المسلسلات التلفزيونية التركية انتشرت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة لتصل إلى أكثر من 100 بلد، وقد أثّرت فعليا على شريحة واسعة من النساء.
ويؤكد الكاتب الأميركي نيك فيفاريللي إن تركيا تحتل المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة الأميركية من حيث الدراما الأكثر انتشارا، إذ صُدّرت الأعمال الدرامية التركية إلى 142 دولة حول العالم عام 2016.
وارتفعت إيرادات المسلسلات التركية من 300 مليون دولار عام 2015 إلى 350 مليون دولار عام 2016 وتهدف صناعة السينما التركية إلى بلوغ مليار دولار عام 2023.
ولكن “هيئة أبحاث الجمهور الفرنسية” كان لها رأي آخر، إذ أكدت أن 75 مسلسلا تركيا قد عرضت على الشاشات العربية عام 2016 بإجمالي إيرادات بلغت 600 مليون دولار، واحتلت السعودية المرتبة الأولى من حيث المشاهدة.
ووفقا لبيانات التنسيقية الدبلوماسية العامة لرئاسة الوزراء التركية، فإن تركيا تنتج نحو 100 عمل درامي سنويا، تُصدّر منها قرابة 15 عملا إلى دول الشرق الأوسط والبلقان وأميركا اللاتينية وغيرها، ويصل عدد مشاهدي الأعمال التركية إلى 400 مليون مشاهد خارج تركيا.
اختراق الأسرة العربية
وتقدم الدراما التركية الحياة بين الزوجين على أنها منحصرة في العاطفة والحب والمتعة، دون مراعاة أن هذه الدراما تذاع في بلدان تعاني أوضاعا اقتصادية صعبة أرهقت الناس وأنستهم حياتهم الشخصية، ومن هنا قد ينفر المشاهد العربي من حياته مع مرور الوقت، لأنه يقوم بمقارنة نفسه بأبطال العمل الدرامي، والكارثة عندما تحدث محاكاة لواقع الدراما.