المستقبل السراب

 المستقبل السراب

 

من المفاهيم التي يجبُ أن تدخل في مهمات التغيير عند الكثيرين منا اليوم  تغييرُ مفهومنا ونظرتنا للمستقبل؛ فكثيرٌ منا ينشغل بتأمين هذا المستقبل انشغالاً لا حدود له، نصرف له جل وقتنا وجهدنا، بل ونستهلك حاضرنا كله لتأمين هذا المستقبل الذي ربما لا يأتي، وربما لا نصل إليه. إن تأمين المستقبل تحول إلى هوس، هوس شغَلَ الناسَ جميعًا، شغل الكبير والصغير، شغل الغني والفقير، شغل العالم والجاهل، شغلنا جميعا؛ هوس تحول إلى داء، داء تكمن خطورتُه في كونه عطّل أمورًا كثيرة عند من ابتلاهم الله به. وأكثر من ابتلاهم الله بهوس تأمين هذا المستقبل تجدهم دائما قلقين، حائرين، مضطربين، متسرعين، خائفين. إن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا ليس هو ذلك اليوم الذي نعتقد. إن المستقبل الحقيقي للإنسان يبدأ من لحظة إغلاق قبره عليه، من لحظة مفارقة أهله وأحبابه له، من لحظة عودتهم إلى دورهم وأعمالهم وتركه بلا أنيس ولا رفيق، وحيدًا تحت التراب، أنيسُه الدود، في وحشة الليل، في ظلمة اللحود، يوم يحال بينه وبين العمل، أو يحال بينه وبين إدراك أو استدراك ما مضى وفات. إن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن يشغلنا هو ما بعد الموت: يوم لا ينفع مال، ولا بنون، ولا حسب، ولا نسب، ولا أملاك، ولا ألقاب؛ “يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ” عبس: 34-37.

الفهم نفسه هو الذي جعل أبا هريرة رضي الله عنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم على أصحابه يجلس غير مكترث لهذه القسمة، ولا بهذه الغنائم. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: “يا أبا هريرة، ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟” فرد عليه أبو هريرة رد المهموم بتأمين مستقبله الحقيقي: يا رسول الله، أسالك أن تعلمني مما علمك الله. يقول أبو هريرة: فنزع رسول الله رداءه وفرشه، وجلسنا، وحدثني حتى استوعبت حديثه، ثم قال لي: “اجمعها فصرها إليك”. فما أسمى همتَك يا أبا هريرة!. فلو طلب المال لحازه، ولو طلب نصيبه من الغنائم لناله، ولو فكر في تأمين مستقبله الوهمي لأمَّنه. ولكنه طلب ما يبقي على ما يفنى. فلقد ذهب المال، وذهبت الغنائم، وبقي علم أبي هريرة الذي نقله للأمة تتعلم منه وتنهل حتى قيام الساعة.