تغطية طاقوية تُمهّد لاكتفاء غذائي أوسع

الكهرباء تدخل زمن الفلاحة الكبرى

الكهرباء تدخل زمن الفلاحة الكبرى
  • 95 ألف مستثمرة مربوطة منذ 2022.. أرقام تكشف حجم النقلة

  • الزراعات الاستراتيجية.. كهرباء دائمة لرفع المردودية

تواصل الجزائر تعزيز توجهها نحو فلاحة عصرية ذات مردودية عالية، من خلال توسيع عمليات ربط المستثمرات الفلاحية بالشبكة الكهربائية، وهو مسار كشفت أرقامه الأخيرة وزارة الطاقة والطاقات المتجددة، مبرزا حجم النقلة التي يشهدها القطاع.

فمع تسجيل ربط أكثر من 95 ألف مستثمرة منذ 2022، يبرز هذا الورش كعنصر محوري في دعم الزراعات الاستراتيجية وتحسين الإنتاج الوطني، بما يعزّز قدرة الفلاحين على تبنّي تقنيات الريّ والسقي والتخزين الحديثة، ويمهّد لمرحلة أكثر استقرارا في مسار الأمن الغذائي. ويكشف هذا التوجّه، أن الطاقة أصبحت رافعة مركزية في مشروع وطني واسع لتأمين احتياجات البلاد من الزراعات الاستراتيجية. فالحقل الفلاحي اليوم يعتمد بدرجة كبيرة على توفر الكهرباء بشكل مستقرّ ومتواصل، خصوصا مع توسع مساحات الإنتاج واعتماد الفلاحين على أنظمة الريّ الحديثة التي لا يمكن تشغيلها دون طاقة موثوقة. كما أسهم الربط الكهربائي في تغيير طريقة الإنتاج داخل المستثمرات الكبرى، حيث سمح بالانتقال من نموذج تقليدي محدود المردودية إلى نموذج يعتمد على استخدام المعدات التقنية، وضبط عمليات السقي، والتحكم في فترات الإنتاج. وهذا التحول انعكس مباشرة على الإنتاجية، سواء في المناطق السهبية أو ذات المناخ الجاف وشبه الجاف، التي كانت قبل سنوات تعاني نقصا واضحا في البنى التحتية. وتبرز أهمية هذا الربط بشكل أكبر، في المشاريع الموجهة لزراعة الحبوب، والأعلاف، والبطاطا، باعتبارها ركائز الأمن الغذائي الوطني. فهذه الزراعات تحتاج إلى دورات سقي دقيقة ومتكررة لا يمكن ضمانها دون كهرباء دائمة، وهو ما جعل توفير الطاقة شرطا أساسيا لاستقرار الإنتاج وجودته، خصوصا مع التوسع في استخدام السقي المحوري عبر ولايات الجنوب والهضاب. ومع توسع الرقعة الزراعية الموجهة للزراعات الاستراتيجية، بات الربط الكهربائي جزءا من رؤية شاملة لتحديث الفلاحة الجزائرية ورفع تنافسيتها. فكل زيادة في التغطية الطاقوية تقابلها زيادة في حجم الإنتاج الوطني، ما يجعل الاستثمار في الطاقة ركيزة لا غنى عنها لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز الأمن الغذائي في السنوات المقبلة.

 

95 ألف مستثمرة مربوطة منذ 2022.. أرقام تكشف حجم النقلة

ويزداد وزن هذا الورش وضوحا عند الوقوف على الأرقام التي عرضهـا وزير الطاقة والطاقات المتجددة مؤخرا، والتي شكّلت مؤشرا دقيقا على حجم التحوّل الجاري داخل القطاع الفلاحي. فقد نجحت عمليات الربط الكهربائي، منذ سنة 2022، في بلوغ عتبة 95 ألف مستثمرة فلاحية مربوطة بالشبكة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ التغطية الطاقوية للمناطق المنتِجة، بالنظر إلى اتساع رقعة التدخل وارتفاع الطلب على الطاقة داخل المشاريع الزراعية. ويمثل هذا الإنجاز خطوة نوعية في مسار دعم الفلاحين، خصوصا أولئك الذين ينشطون في مناطق كانت تعاني سابقا من ضعف البنية التحتية أو صعوبة الولوج إلى مصادر الطاقة. فالربط المستمر بالمحولات الكهربائية الجديدة مكن المزارعين من الانتقال إلى نمط إنتاج أكثر انتظاما واستقرارا، بعيدا عن التقلبات التي كانت تؤثر على دورات السقي وتوقيت عمليات الحرث والبذر والحصاد. كما أسهمت هذه الديناميكية في تقليص الخسائر المرتبطة بتذبذب الطاقة أو الاعتماد على وسائل بديلة مرتفعة التكلفة مثل المولدات، وهو ما عزّز القدرة التنافسية للمستثمرات وربحيتها، ورفع من هامش مردودية عدد كبير من الفلاحين عبر مختلف الولايات. وأصبح توفر الكهرباء عاملا محددا في تحسين نوعية الإنتاج، وتوسيع مساحات الزراعة المسقية، وتشجيع الفلاحين على اعتماد تقنيات دقيقة في التسميد والسقي والمعالجة. وتتجه الجهود نحو تحقيق الهدف المسطر والمتمثل في بلوغ 100 ألف مستثمرة مربوطة بالكهرباء مع نهاية 2025، في خطوة تعكس استمرار الدولة في دعم التحول الفلاحي وتشجيع الاستثمار في الزراعات ذات القيمة الاستراتيجية. ومع كل مستثمرة جديدة يتم ربطها، تتعزز قدرة القطاع على تحقيق الاكتفاء الغذائي، وتزداد قدرة الفلاحين على إنتاج غذاء مستقرّ ومتنوّع يلبّي احتياجات السوق الوطنية.

 

الطاقة في خدمة الاستثمار.. مشاريع تربط الفلاحة بالصناعة

ويمتد أثر هذا التوسع في الربط الكهربائي ليشمل بعدا اقتصاديا أوسع يتجاوز حدود المستثمرات الفلاحية، حيث أصبحت الطاقة عنصرا محوريا في ربط حلقات الإنتاج الزراعي بالأنشطة الصناعية المرتبطة به. فتوفر الكهرباء بقدرات كافية وبشكل دائم سمح بظهور نموذج تكاملي بين الفلاحة والصناعة الغذائية، ما أعطى للمشاريع الكبرى قدرة أكبر على التحول إلى وحدات إنتاج متكاملة بدل الاكتفاء بالزراعة الخام فقط. وفي العديد من الولايات، سمح الربط الكهربائي للمستثمرين بإنشاء وحدات تحويل بسيطة داخل المستثمرات، مثل غرف التبريد، ومحطات الفرز والتوضيب، ووحدات التخزين الذكي، وهي منشآت لا يمكن تشغيلها دون مصادر طاقة مستقرة. ونتيجة لذلك، تراجعت نسب التلف، وارتفعت قدرة المنتجين على التحكم في تسويق منتجاتهم، مع فتح المجال أمام سلاسل قيمة جديدة تعزز من تنافسية المنتَج المحلي. كما أتاح توفر الطاقة فرصا أكبر لتنويع النشاط الفلاحي الصناعي، خصوصا في الشعب التي تتطلب تجهيزات كهربائية ذات استهلاك مرتفع، مثل إنتاج الأعلاف، وتجهيز الحبوب، وتحويل المنتوجات الزراعية. هذا التوسع في النشاط الصناعي داخل المناطق الفلاحية دفع بالعديد من المستثمرين إلى توسيع مشاريعهم أو إطلاق مشاريع جديدة، مستفيدين من التغطية الطاقوية التي أصبحت عاملًا جاذبًا للاستثمار بدل أن تكون عائقا كما كان الحال سابقا. وأصبح الربط بالطاقة، جزءا أساسيا من السياسات الرامية إلى خلق مناخ استثماري ملائم على المستوى المحلي، حيث تسهم هذه المشاريع في توفير مناصب شغل جديدة، وتنشيط الاقتصاد الولائي، ودعم الإنتاج الوطني الموجه للاستهلاك الداخلي وللتصدير. وبذلك تتحول الطاقة إلى قاعدة تأسيسية تبني عليها الدولة رؤيتها لربط الفلاحة بالصناعة، بما يعزز من تنويع الاقتصاد ويدعم التنمية الشاملة في مختلف الجهات.

 

الزراعات الاستراتيجية.. حاجتها إلى طاقة مستقرة ومتواصلة

ويأخذ البعد التقني للربط الكهربائي، أهميته القصوى عند الحديث عن الزراعات الاستراتيجية التي تُعد العمود الفقري للأمن الغذائي الوطني. فهذه الزراعات، وفي مقدمتها الحبوب والبطاطا والأعلاف، تعتمد اعتمادا مباشرا على توفر طاقة دائمة تُشغَّل بها أنظمة الريّ الحديثة، سواء السقي المحوري أو التنقيط، إلى جانب معدات الضخ والتخزين والتبريد. وكل انقطاع أو ضعف في الإمداد الكهربائي يمكن أن يربك دورة الإنتاج بكاملها، خصوصا في المناطق التي تشهد مناخا حارا أو مجهودا زراعيا مكثّفا. ومع توسع المساحات الموجهة لهذه الزراعات، أصبح الربط بالكهرباء شرطا ضروريا لضمان انتظام عمليات السقي، التي تتطلب دقة في المواعيد وكميات المياه، بما يتوافق مع طبيعة كل محصول. فقد أصبحت الطاقة جزءا من إدارة المزارع الكبرى، حيث يعتمد الفلاحون على مضخات عالية القدرة، وبرامج سقي مبرمجة، ومحطات مراقبة إلكترونية، كلها تحتاج إلى تغذية طاقوية مستقرة لضمان فعالية الإنتاج وجودته. كما تلعب الكهرباء دورا جوهريا في مرحلة ما بعد الجني، سواء عبر تشغيل المبردات، أو غرف التخزين، أو تجهيزات الفرز والوزن والمعالجة الأولية للمنتجات. فكل هذه العناصر تسهم في تقليل الخسائر والحفاظ على جودة المنتوج، خصوصا في الشعب التي تعتمد على التخزين قبل التسويق، مثل البطاطا والتمور والحبوب. وبدون توفر طاقة مستقرة، يبقى المنتج عرضة للتلف أو التراجع في النوعية، وهو ما ينعكس على مردودية الفلاحين وعلى وفرة المنتوج في الأسواق. ويعزّز هذا المسار، قدرة الدولة على تثبيت الزراعات الاستراتيجية في مناطق جديدة، خاصة في الجنوب والهضاب، حيث توفر المساحات الشاسعة والقدرة على التحكم في المياه يجعل من هذه الأقاليم فضاءات واعدة للمشاريع الكبرى. ومع كل توسع في التغطية الكهربائية، تزداد فرص تطوير هذه الزراعات، وتتعزز مقومات الإنتاج الوطني، ما يدعم بشكل مباشر هدف الجزائر في بناء منظومة غذائية قائمة على الإنتاج المحلي بدل الاستيراد.

 

شبكة كهربائية تمتدّ لدعم المنتجين

ويمتد أثر هذا التوسع في الربط الكهربائي عبر مختلف الجهات، ليشمل مناطق كانت إلى وقت قريب تفتقر إلى الحدّ الأدنى من البنية التحتية الطاقوية، خصوصا في ولايات الجنوب والسهوب والهضاب العليا. فقد سمحت مشاريع التوسعة التي تنفذها شركات التوزيع بمدّ خطوط جديدة نحو الفضاءات الزراعية البعيدة، ما مكّن آلاف الفلاحين من ولوج الشبكة لأول مرة، ودمج مستثمراتهم في الدورة الإنتاجية الوطنية بشكل أكثر فعالية واستقرارا. وتبرز أهمية هذا الجهد في المناطق المعزولة تحديدا، حيث شكّل الربط بالكهرباء فارقا واضحا في نمط عمل الفلاحين، سواء في التحكم في ساعات السقي، أو في تشغيل الآلات الزراعية الضرورية، أو في ضمان توفر الظروف المثلى لنجاح عمليات البذر والحرث والمعالجة. فقد أصبح الحصول على الكهرباء عاملا يحدد شكل الموسم الفلاحي في مناطق كانت تعتمد سابقا على حلول بديلة باهظة التكلفة أو غير مستقرة، مثل المولدات الفردية. كما يكتسي التوسع في التغطية الطاقوية، بعدا اجتماعيا مهما، بالنظر إلى تأثيره المباشر على نشاط سكان المناطق الريفية وشبه الريفية. فوجود الكهرباء يعني أيضا توسع الخدمات الأساسية، وتحسين ظروف العيش، وتشجيع الفلاحين على تثبيت استثماراتهم وعدم مغادرة الأراضي الزراعية. وقد أدى ذلك في العديد من البلديات إلى بروز ديناميكية محلية جديدة، ساهمت في خلق فرص عمل وتعزيز التبادل التجاري بين المناطق المنتجة والأسواق الاستهلاكية. ومع كل خط كهربائي جديد يصل إلى منطقة زراعية، تتوسع دائرة الإنتاج، وتزداد قدرة الفلاحين على إدخال تحسينات تقنية لم تكن ممكنة من قبل، سواء في السقي أو التخزين أو تجهيز المنتجات الأولية. وهكذا تتحول الشبكة الكهربائية إلى شريان يمتد من واد إلى واد، حاملا معه شروط تطوير الفلاحة الحديثة، وداعما لمنتجين يعملون على تعزيز حضور المنتوج الوطني في السوق، ضمن رؤية أوسع لبناء اقتصاد زراعي قوي ومستدام. وتشير هذه الديناميكية المتصاعدة في مشاريع الربط الكهربائي إلى أن الفلاحة الجزائرية تتحرك نحو مرحلة أكثر نضجا، تُدار فيها المستثمرات وفق معايير تقنية ومعطيات طاقوية دقيقة، بما يضمن استقرار الإنتاج وجودته. ومع اتساع رقعة التغطية عبر مختلف ولايات الوطن، يترسخ الدور المركزي للطاقة كعامل حاسم في تطوير الزراعات الاستراتيجية وتعزيز الأمن الغذائي، في وقت تمضي فيه الدولة نحو تمكين الفلاحين من أدوات إنتاج حديثة وفعالة. وهكذا يغدو الربط الكهربائي أكثر من مجرد مشروع تقني، بل مسارا اقتصاديا متكاملا يفتح آفاقا واسعة أمام الاستثمار الزراعي، ويمهّد لمرحلة جديدة تقوم على الإنتاج المحلي القوي والتنمية المستدامة في الريف والسهوب والجنوب.

م. ع