الكنز الثمين المردوم تحت الأرض  بساحة الشهداء الجزائر العاصمة “مسجد السيدة وبيت المال”.. المعلم الذي هدمته الإشاعة واكتشفته الصدفة

elmaouid

اكتست ساحة الشهداء بالجزائر العاصمة حلة جديدة، استعدادا لافتتاح محطة الميترو الجديدة، التي ستربط أهم بلديات العاصمة المعروفة بالاختناق المروري، بمركز المدينة، فالعمارات التي تعود إلى العهد

الاستعماري لبست الثوب الأبيض، يعلوها جامع “كتشاوة” ببياضه الناصع، ويقابله الجامع الكبير المطل على البحر، في انتظار اليوم الموعود، الذي يترقبه العاصميون بشغف كبير، ليس فقط من أجل التنقل عبره بل حتى الراغبين في زيارة المحطة من أجل رؤية الآثار أو “جامع السيدة وبيت المال” التي تم اكتشافها أثناء عملية الحفر.

 

مدينة كاملة تحت ساحة الشهداء

تفاجأ القائمون على عملية الحفر باكتشاف كنز ثمين مكنهم من الوقوف على مدينة بكاملها تقع تحت ساحة الشهداء، تحمل كافة مواصفات وتفاصيل مدينة راقية ومتقدمة، مقارنة بعصرها، العهد العثماني، ورغم أنه لم يتبق من هذا الصرح المعماري التاريخي، إلا أجزاء من الأعمدة والجدران المبنية بالحجارة، إلا أن ذلك كان كافيا لإثارة فضول أغلب من يزور المدينة، ومن يقصدون ساحة الشهداء، للإطلاع على الآثار التي دارت حولها روايات وحكايات، كل يسردها، حسب ما سمعه من مسنين وسكان قدماء بحي القصبة العتيق، استرجعوا عبق الماضي.

 

من محطة للحافلات إلى مزار للسواح

لم تكن الساحة التي اكتشفت بها الآثار العثمانية قبل سنتين، سوى محطة لنقل المسافرين، تتجمع بها عشرات حافلات النقل الحضري التي تربط ساحة الشهداء بمختلف أنحاء وضواحي العاصمة، كما كان المكان يعج بالمسافرين وتعلو به أصوات الناقلين، وكذا الباعة الذين كانوا يتخذون من أسفل العمارات غير البعيدة عن مسجد كتشاوة، الذي تمت تهيئته وترميمه من قبل مهندسين أتراك، سوقا شعبية يقصدها سكان العاصمة، لاقتناء الأقمشة والأدوات المنزلية، والألبسة التقليدية، والأواني النحاسية.

ظلت ساحة الشهداء مغلقة ومحاطة بسياج من صفائح معدنية لمدة قاربت السنتين، لم تتوقف خلالها الأشغال ليلا ونهارا، ولم تهدأ آلات الحفر لاستلام المشروع في موعده، إلى غاية أن وقف المكلفون بالأشغال على كنز ثمين ظل لقرون مردوما تحت الأرض، بإرادة مبيّتة من المستعمر الفرنسي الذي سعى إلى طمس كل ما يرمز إلى تاريخ الجزائر العميق، ما جعل سكان “المحروسة”، كما يحلو للمختصين في تاريخ العاصمة تسميتها، ينبهرون ويصابون بالدهشة والذهول وهم يقفون على آثار الأجداد، وعلى حضارة عريقة، نظرا لما تحمله الآثار المكتشفة من معالم ثمينة وهندسة معمارية في غاية الدقة والتطور.

الحلة الجديدة التي ارتدتها ساحة الشهداء جعلتها محطة يقصدها يوميا كل من يزور العاصمة، سواء من البلديات المجاورة أو من خارج الولاية، فالكل أضحى يستمتع وهو يجلس على كراس وضعت خصيصا لضمان راحة الزوار، للاستمتاع بصفاء السماء المتناغم مع لون البحر المائل إلى الأزرق اللامع، وكذا الجامع الكبير المطل على خليج العاصمة، ويقابله جامع كتشاوة الذي تحول من آثار عثمانية كانت توشك على الانهيار، إلى تحفة تاريخية تولى مهندسون أتراك إعادة ترميمها، بالاعتماد على طرق علمية للمحافظة على الطابع الأصلي للمسجد.

ويحيط بالساحة فضاء أخضر زين بالنباتات والأزهار ذات الألوان المختلفة، يحرص عمال مختصون على سقيها والاعتناء بها لتحافظ على نضارتها ورونقها، في حين يواصل عمال بلدية القصبة وكذا الشركات المختصة في الصيانة، تهيئة المكان استعدادا لإعطاء الضوء الأخضر لانطلاق مترو العاصمة، باتجاه ساحة الشهداء.

علما بأن الساحة تتوسط أهم الأحياء العتيقة للعاصمة، وهي القصبة وباب الوادي ووادي قريش وباب عزون، وتعد القصبة من أهم المعالم التاريخية التي لا تزال تحافظ على طابعها، رغم مرور السنين، ويسعى المهتمون بتاريخها للحفاظ على نمطها الأصيل، وينسقون مع السلطات المحلية لعدم المساس بالهندسة المعمارية للقصبة خلال أشغال الترميم، على غرار الشاب “جمال” الذي عرفنا عليه أحد الموظفين بـ “دار عزيزة” وهي قصر عتيق يقع بالقرب من مسجد كتشاوة، يحتضن حاليا مقر المؤسسة المكلفة بترميم “جامع السيدة”، المكتشف حديثا بساحة الشهداء.

 

الكنز المنسي الذي عاد إلى الواجهة

يصفه مؤرخون بـ “مسجد الملوك والعلماء” خلال العهد العثماني بالجزائر، ويتفوق في جماله ورونقه وشساعة مساحته على أغلب المساجد بالعاصمة الجزائرية، لكن مصيره كان الهدم على يد “الاستعمار” الفرنسي مع غزوه البلاد عام 1830، بسبب إشاعة، وبعد قرابة قرنين من الزمن كشفت أشغال لمترو الأنفاق عن هذا المعلم الديني والكنز الأثري، الذي كان يُسمى مسجد “السيدة”، والذي ما زال المؤرخون يتداولون عدة أساطير حول خلفية هذه التسمية، وأسباب هدمه من قبل الفرنسيين في القرن التاسع عشر.

 

المحطة التي تحولت إلى متحف

يجد الزّائر لورشة محطة مترو الأنفاق بساحة “الشهداء”، بقايا هذا المسجد العتيق إلى جانب آثار أخرى تعود إلى آلاف السّنين أي إلى الفترة الرومانية والبيزنطية.

وتتواصل بنفس المكان منذ العام 2013، حفريات وعمليات تحليل لهذه الكنوز الأثرية من قبل خبراء بالتزامن مع أشغال إنجاز محطة المترو.

هذا، وكانت السلطات الجزائرية قررت إنجاز متحف أثري يضم هذه الكنوز داخل محطة المترو المنتظر أن يدخل حيز الخدمة الأيام المقبلة، وحول هذا الموضوع قال سمير عميروش، من المركز الجزائري للبحوث الأثرية:”إن مساحة محطة المترو تم تقليصها بأكثر من النصف، لتصبح ألف متر مربع، بعد أن كانت قرابة 3 آلاف متر مربع، في أعقاب اكتشاف هذه الآثار وذلك من أجل إنجاز متحف لها”.

وأضاف “البحوث متواصلة للوقوف أكثر على هذه الكنوز الأثرية، ومنها مسجد السيدة الذي لم يبقَ منه سوى قاعدة الصومعة التي تم هدمها، وقاعة صلاة بجوار مكان بيت المال (خزينة المال في العهد العثماني)، إلى جانب شبكة أحياء عريقة تعود إلى العهد العثماني أيضًا”.

ومنذ اكتشاف هذه الآثار يتداول المؤرخون والباحثون في الجزائر عدة روايات عن هذا المسجد بسبب مكانته لدى الحكّام في العهد العثماني، وسط غموض حول فترة إنجازه وكذا أصل تسميته.

وفي وصفه للمسجد خلال بحث نشره منذ أيام، قال فوزي سعد الله، الباحث في التاريخ الجزائري إن الجامع كان “حنفي المذهب، يصلي فيه مَن كانوا يوصفون بالأتراك من باشوات وآغوات وريّاس البحر ورجال عِلم وعامة الناس في المدينة، وتميّز طيلة قرون عن غيره من المساجد والجوامع في العاصمة الجزائرية بشساعته وجماله ورونقه وأيضًا بمجاورته القصر الملكي في العهد العثماني”.

وعن تاريخ بنائه، يوضح نفس الباحث “ثمة اعتقاد يجمع بين أغلب مَن درسوا تاريخ مدينة الجزائر وعمرانها، وهو أن جامع السيدة سابق لدخول الأخوين العثمانيين خير الدين بربروس وعروج إلى الجزائر عام 1516 وهو تاريخ بداية الحكم العثماني للبلاد”.

من جهته، يذكر المؤرخ الجزائري محمد بن مدور أن “هذا المسجد بُني في فترة حكم قبيلة بنو مزغنة البربرية للجزائر في القرن العاشر الميلادي (سنة 970) من قبل سيّدة ثرية أطلق عليه اسمها بعدها”.

وتابع “لكن العثمانيين بعد دخولهم اعتنوا بهذا المسجد وأدخلوا عليه تحسينات وأصبح مسجدًا للحكام والدّايات بسبب تواجده بالقرب من قصور هؤلاء الحكام”.

 

بلقاسم باباسي: “تسميته تعود لسيدة ثرية وهبت أموالها لبنائه”

أما فيما يخص التسمية، فيشير المؤرخ الجزائري بلقاسم باباسي، في روايته إلى أن هذا المسجد بني من قبل الحكام العثمانيين بعد دخولهم الجزائر.

وأوضح أن “أصل تسمية السيدة التي أطلقت على المسجد، تعود لامرأة ثرية قدمت مع العثمانيين إلى الجزائر وحين همت بمغادرة البلاد وَهبت أموالًا لبناء أجمل مسجد يخلدها بالعاصمة الجزائر”.

وتتقارب هذه الرواية مع تلك التي قدمها الباحث فوزي سعد الله، بأنه “لا يُعرف شيء عن السيدة التي يُنسَب إليها هذا الجامع، وكل ما يشاع عنها هو أنها امرأة مُحسِنة من ثريات المدينة تكرَّمت بإنجاز هذا المعْلَم العمراني الديني”.

كما يتم تداول عدة روايات حول سبب هدم هذا المسجد من قبل الفرنسيّين بعد غزوهم البلاد عام 1830 وتم بعدها ردم المكان وتحويله لساحة عسكرية قبل أن يبني الفرنسيون مكانه فندقًا سمي “لاريجونس” ليُهدم بدوره بعد استقلال البلاد عام 1962، ويتحول المكان إلى محطة للحافلات.

ويقول سعد الله “الشائعات هي التي قضت على جامع السيدة وأنهتْ وجوده إلى الأبد.. كان يُهمَس في أذن الجنرال كلوزيل (قائد الغزو الفرنسي على الجزائر العاصمة) خلال الأشهر الأولى لاحتلال فرنسا الجزائر، بأن تحت أرضية جامع السيدة، توجد كنوز ثمينة مدفونة منذ زمن طويل.. وكانت هذه الشائعات وراء قرار الجنرال مباشرة الحفريات مطلع أفريل 1831م داخل هذا المعْلم”.

ووفق المؤرخ محمد بومدور فإنه “مع دخول الفرنسيين إلى الجزائر العاصمة بلغ إلى مسامع الحاكم كلوزال، حديث وشائعات عن وجود كنز في مكان ما تحت المسجد، وفي 16 أوت 1830، أعطى أمرًا بغلقه وشرع الفرنسيون في البحث عن الكنز المزعوم”.

واستطرد “عمليات البحث كانت تتم بطريقة همجية أين تم العبث بأعمدة وأسس المسجد بشكل ساهم في هدمه تدريجيًا”.

من جانبه، أكد المؤرخ بلقاسم باباسي، هذه الرواية، وأوضح أن “الفرنسيين لجأوا إلى حرق دعائم المسجد الخشبية لصلابتها وخاصة الصومعة بشكل أدى إلى سقوطها وهدم المسجد”.

 

أعمدة رخامية وتيجان “تسر الناظرين”

مكنت الحفريات التي قام بها مختصون من التعرف على أسس منارة الجامع الحنفي، المعروف تحت تسمية جامع السيدة، وكان مخصصا للبشاوات إلى غاية سنة 1817، ويضم الجامع الذي كان معروفا بطابعه المعماري المتميز، كما أكد مؤرخون، مدرسة قرآنية شيدت سنة 1703، وبعد تهديم الجامع من طرف المستعمر سنة 1836، أعيد استخدام أعمدته الرخامية وتيجانها ذات الزخارف النباتية، لتجميل الرواق الخارجي للجامع المرابطي الكبير، مما جعل محطة الميترو تتربع على مخزون حضاري وتاريخي، يروي ماضي العاصمة، ويعكس حقبة زمنية هامة، كانت خلالها الجزائر في أوج قوتها وازدهارها، فكانت لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط دون منازع.

 

..وللقصبة مرشدها السياحي

يؤدي الشاب جمال حاليا مهمة الدليل السياحي، وهو يرافق السواح الأجانب المهتمين باكتشاف القصبة، ليعرفهم على أزقتها وبناياتها المعروفة بتسمية “الدويرة”، علما بأن التخطيط الهندسي للقصبة، له شكل هرمي، يجعل من المستحيل على الغرباء عن المدينة التجوال بداخلها، دون دليل سياحي، يدرك جيدا مداخل ومخارج مختلف أزقتها.

قال جمال بأن المعلومات التي جمعها عن تاريخ القصبة، بفضل احتكاكه بالشيوخ وقدماء الحي، مؤكدا حرصه شخصيا على متابعة تسييج الآثار المكتشفة بساحة الشهداء، وقد حز في نفسه كثيرا استعمال بعض الحجارة المكتشفة في تشييد ما يشبه الأدراج من قبل المؤسسة المكلفة بالأشغال، وكذا تعرض بعضها إلى الكسر والتخريب من قبل مجهولين، ظنا منهم أنها تحتوي على المال.

 

من بناية آيلة للسقوط إلى مكان لالتقاط الصور

استمرت عملية ترميم مسجد كتشاوة ومعناه باللغة التركية “ساحة الماعز”، أزيد من ثلاث سنوات، إذ انطلقت الأشغال سنة 2014، بموجب اتفاقية تم التوقيع عليها سنة 2013  بين وكالة التعاون والتنسيق التركية والوزير الأول التركي، ممثلا للجمهورية التركية و وزارة السكن والعمران والمدينة، ممثلة للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وتعتبر العملية هبة من طرف الجمهورية التركية، وشملت ترميم الأحجار الداخلية لكل قبة من قبب المسجد، وإنشاء قنوات صرف المياه، وإعادة إنشاء مراحيض جديدة وأماكن الاغتسال، أي الوضوء للنساء والرجال، ولم تخل عملية الترميم من المفاجآت، نظرا لثراء حي القصبة بالآثار القديمة، منها ما يعود إلى العهد الروماني و أخرى للعهد العثماني، حيث تم العثور على بعض الاكتشافات غير المتوقعة أثناء الأشغال الإعدادية والترميم، من بينها لوحات جدارية تعود إلى العهد الاستعماري، وبقايا من الفترة العثمانية، وكذا الجدار الخارجي للمسجد الأصلي، وبئر بعمق 6.5 أمتار.

مسجد كتشاوة الذي تحده شمالا دار السلطان التي لا تزال تخضع لإعادة الترميم، زارته مؤخرا السيدة أمينة أردوغان، زوجة الرئيس التركي، والوفد المرافق لها، والتقطت العديد من الصور التذكارية في هذا الصرح العمراني العريق.

والملفت للنظر أن كل من يمر أمامه من  زوار وسواح يلتقطون صورا تذكارية للمكان الذي كان إلى وقت قريب بناية آيلة للسقوط، يتجمع حولها باعة الأرصفة.

ومن التدابير الجديدة التي اتخذتها مصالح ولاية الجزائر، بغرض إعطاء وسط العاصمة مكانتها وجمالها اللائق بها، إزاحة الباعة المتجولين الذين سيطروا على المكان ضمن ما كان يعرف بسوق الجمعة، خلال الفترة التي استغرقتها أشغال بناء محطة الميترو التي تقع على عمق 7 أمتار عن سطح البحر، وهم يتمركزون حاليا قرب السوق الشعبية المغطاة، غير بعيد عن جامع كتشاوة، ويقصد هذه السوق أغلب سكان العاصمة، نظرا لما تعرضه من سلع ذات نوعية وبأسعار معقولة، كما سهرت ذات السلطات على ترميم وطلاء كافة العمارات المطلة على ساحة الشهداء باللون الأبيض، الذي أضفى جمالا على الجامع الكبير الذي يؤدي فيه رئيس الجمهورية صلاة العيدين، كما يحتضن سنويا الاحتفالات الرسمية الخاصة بالمسابقة الدولية لحفظة القرآن الكريم، إلى جانب إحياء ليلة القدر، وغير بعيد عن هذا المسجد العتيق ترتفع صومعة مسجد علي بتشين، ثم “زوج عيون” المعروفة بحي باب الوادي.

هذا، وتروي سيدات متقدمات في السن من قاطني حي القصبة العريق الذي شهد فصول حرب الجزائر، إبان الثورة التحريرية، تفاصيل عن الحياة في مدينة “بني مزغنة”، إبان القرون الماضية، وكيف بلغت أوج تقدمها، بدليل قطع “الزليج” التي توجد بجامع السيدة، وفق اعتقاد سيدة مسنة اقتربنا منها، وكانت تتحدث مع نسوة جئن من أحياء مجاورة لساحة الشهداء عن الآثار المكتشفة، وعن تفاصيلها وما تجسده من معالم تاريخية، في حين اصطف عشرات المواطنين وراء السياج الذي أحيطت به المساحة الأثرية، في محاولة للاطلاع على هندستها وخصائصها، وانهمك آخرون في التقاط صور تذكارية، وأسرع الكثير من الزوار لقراءة البطاقة الفنية التي وضعت خصيصا للتعريف “بجامع السيدة وبيت المال”.