لقَدْ ثَبَتَ في الصَّحيحِ منْ حَديث عُمَرَ بن الخَطاب رَضيَ اللهُ عنْهُ، كمَا في شُعَب الإيمَان أنه قالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ: “لوْ أنكُمْ تَتَوَكلُونَ عَلَى الله حَقَّ توَكله، لرزقَكُم كمَا يرزُقُ الطيرَ، تغْدُو خمَاصًا وتَرُوحُ بطَانًا”. لقد اخْتَلَفَ أربابُ القُلُوبِ، وشُيُوخُ التَّرْبيَة في مَقَامَي التَّجْريد والتَّدْبير، فَتَبَايَنَتْ آرَاؤُهُمْ في المُفَاضَلَة بينهُمَا، كَمَا اخْتَلَفَت أقْوَالُهُم في المُفَاضَلَة بيْنَ الغَنيِّ الشَّاكر والفَقِير الصَّابر. إنَّ مَقَامَ التَّجْريد يعني ترك الأسباب الجَعْلية، ومنها التسبب للمعاش، اعتمادا على مسبب الأسباب، الذي قَامَت به السَّمَاوَاتُ والأرضُونَ، فرَكَنُوا إلى مَقَام التَّوَكُّل، بالانقطَاع بالكُليَّة إلى الله تعالى، فتَلَاشَى به كُلُّ سَبَب دُنْيَويٍّ. أمَّا مَقَامُ التَّدبير، فيعني الأخذَ بقَانُون السَّبَبية، ومنها التسَبُّبُ لكَسْب القُوت، والتَّطَبُّبُ للاسْتشْفَاء، ولَمْ يَعْتَبرُوا هذَا المَقَامَ مُنَافيًا لحَقيقَة التوَكل عَلَى الله سُبْحَانَهُ. إنَّ عُمْدَةَ منْ قَالَ بالتجْريد -أيْ تَرْكَ الأَسْبَاب- ، كُلُّ النصُوص الآمرَة بالتوَكُّل عَلَى الله سُبْحَانه، منها قَوْلُهُ تَعَالَى: ” وَمَنْ يَتَوَكلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ” الطلاق: 03، ووَقَفُوا على حقيقَة جَازمَة، وهي أنَّ كُل مَا سوَى الله بَاطلٌ، وأن المَوْجُودات كُلَّهَا بمَا فيهَا الأَسْبابَ والمُسَبَّبَاتِ، إنما تَأْتَمرُ بأَمْر الله سُبْحَانَهُ، أمة الأخذِ بالأسبابِ: وأما عمدةُ من قالَ بالتَّدبير-أي الأخذَ بالأَسبابِ- فكلُّ النصوصِ الآمرةِ بالعمل والتَّكسُّبِ، ويدخلُ فيها تَوَجُّهُ الخطابِ الإلهيِّ للمكَلَّفينَ بالعملِ الصَّالحِ، وعدمِ الرُّكونِ إلى الأمَانيِّ، منها قولُهُ تعالَى “إنَّ الذينَ آمنُوا وعملُوا الصَّالحاتِ كانتْ لهم جنَّاتُ الفردوسِ نزُلًا” الكهف: 107، وصحَّ عن الحسنِ البصريِّ رضي الله عنه أنه قال: ” ليس الايمانُ بالتمنِّي ولا بالتَّحلِّي، ولكنْ ما وقر في القلب وصدَّقَه العملُ” وقولُه تعالى في شأن كليم الله موسى عليه السلام: “فسقَى لهما ثم تولَّى إلى الظِّلِّ فقال ربِّ إنِّي لمَا أنزلْتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ” القصص: 24، وقوله عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري: ” ما أكلَ أحد طعاما قطُّ خيرًا من أن يأكلَ منْ عمل يدِهِ، وإنَّ نبيَّ الله داودَ عليه السلامُ كان يأكلُ من عملِ يده” وعنه كما صَحَّ عند البخاري أنه قال: ” ما بعثَ الله نبيًّا إلا رعَى الغنَمَ ” فقال أصحابه وأنت ؟ فقال: ” نعم كنت أرعاها علَى قراريطَ لأهلِ مكَّةَ” ويوكِّدُ سعيدُ بن المسيِّبِ رحمه الله أهمِّيَّةَ التكسُّبِ لفوائدِهِ الجمَّةِ قائلا: ” لا خَيْرَ فيمَنْ لا يُرِيدُ جَمْعَ المَالِ منْ حِلِّهِ، يَكُفُّ بهَا وَجْهَهُ عنِ النّاسِ، ويَصِلُ بهَا رَحِمَهُ، ويُعْطِي منهُ حَقَّهُ”.
الجزء الأول من خطبة الجمعة من جامع الجزائر