يعرف القطاع الصحي في الجزائر تطورا متواصلا منذ تحقيق الاستقلال في سنة 1962، فقد خرجت الجزائر وهي ببنية صحية تحتية مُنهكة ومتدهورة من حقبة استعمارية مدمرة، عمل خلالها المستعمر الفرنسي على تدمير كل القطاعات خاصة الحيوية منها.
شرعت الدولة الجزائرية، بمجرد استقلالها، في بناء مؤسسات استشفائية جديدة بغرض تحسين الرعاية الصحية وتوفير خدمات صحية شاملة ومتكاملة للشعب الجزائري خاصة مع النمو الديموغرافي المتسارع الذي عرفته البلد، فتمّ تشييد عدد من المستشفيات الجامعية الكبرى عبر مختلف ولايات الوطن وهي من أهم الإنجازات التي حققتها البلد في مجال الصحة.
أهم مراحل تطور القطاع الصحي
يُمكن تقسيم مراحل تطور القطاع الصحي في الجزائر منذ الاستقلال إلى عدة مراحل نذكرها فيما يلي:
مرحلة ما بعد الاستقلال (1962-1973):
تميزت هذه المرحلة بجهود حثيثة لبناء البنية التحتية الصحية وتأهيل الكوادر الطبية، مع التركيز على توفير الرعاية الصحية الأساسية وتلبية الاحتياجات الصحية الطارئة.
مرحلة التخطيط والتوسع (1974-1989):
شهدت هذه المرحلة إطلاق برامج صحية طموحة لتوسيع شبكة المرافق الصحية وتطوير الخدمات الصحية في مختلف مناطق البلد، مع التركيز على الوقاية من الأمراض وتعميم التغطية الصحية.
مرحلة الإصلاح والتكيف (1990-2000):
تأثر القطاع الصحي في هذه المرحلة بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها البلد، مما أدى إلى إعادة النظر في استراتيجيات التمويل وتطوير الخدمات الصحية، مع التركيز على ترشيد النفقات وتحسين الكفاءة.
مرحلة التنمية المستدامة (2001-2010):
تميزت هذه المرحلة بزيادة الاستثمار في القطاع الصحي، وتطوير البنية التحتية الصحية، وتحسين جودة الخدمات الصحية، مع التركيز على تطوير الموارد البشرية والبحث العلمي.
مرحلة التوجهات الجديدة (2011 – حتى الآن):
شهدت هذه المرحلة تبني استراتيجيات جديدة للتحول الصحي، تركز على تعزيز الوقاية من الأمراض، وتطوير الخدمات الصحية المتخصصة، وتفعيل دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات الصحية.
نحو تحقيق رعاية صحية شاملة
تواصل الدولة الجزائرية جهودها في سبيل تحقيق تغطية صحية شاملة وتحسين الخدمات لجميع المواطنين وعبر كامل ربوع الوطن، فلم تقتصر الجهود على بناء الهياكل في الشمال فقط، بل شملت أيضًا المناطق الجنوبية من الوطن، حيث تم إنشاء مراكز صحية حديثة في ولايات الجنوب الجزائري الكبير كولاية وادي سوف، وهذا من أجل تقريب الخدمات الصحية من المواطنين في المناطق النائية ودعم التغطية الصحية على مستوى الوطن، وهو ما يؤكد عزم السلطات وعلى رأسها السيد عبد المجيد تبون رئيس الجمهورية بتوفير الرعاية الصحية وتحقيق العدالة الصحية بين مختلف مناطق الوطن وعبر كامل أرجائه، وضمان وصول الرعاية الطبية لجميع المواطنين مهما كان مكان إقامتهم.
الاستثمار في البنية التحتية والمورد البشري
أولت الدولة الجزائرية اهتماما كبيرا بالبنية التحتية للقطاع الصحي، لذا فالسلطات الجزائرية حريصة على بناء المستشفيات والعيادات ومختلف المراكز الصحية، هذا وتمتلك الجزائر شبكة صحية تتضمن 17 مستشفى جامعيا، بالإضافة إلى عدد كبير من المؤسسات والمراكز الصحية المتخصصة التي تغطي مختلف المناطق الحضرية والريفية، كما تم إنشاء مستشفيات ومراكز علاجية متخصصة لمعالجة أمراض معقدة، مثل السرطان وأمراض القلب، مما يعكس التزام الدولة بتطوير خدمات صحية نوعية تتماشى مع التقدم الطبي العالمي.
كما لم يقتصر اهتمام الدولة وتركيزها على بناء البنية التحتية فقط بل شمل توفير المورد البشري الذي يحتاجه القطاع، حيث تم تنفيذ برامج تكوينية متقدمة للأطباء والممرضين في مختلف التخصصات الطبية، كما تم إدراج تخصصات دقيقة في مجال الطب، مثل الجراحة والعلاج الإشعاعي وطب الأطفال الحديث، وذلك لتلبية الطلب المتزايد على الرعاية الصحية المتخصصة ومواكبة التطورات في الطب الحديث، وساعدت كل هذه الجهود في تحسين جودة الخدمات الصحية المقدمة، وضمان تقديم رعاية صحية ذات مستوى عالٍ من الكفاءة والاحترافية.
القطاع الصحي في مواجهة التحديات
رغم أن الجزائر قطعت شوطًا كبيرًا في تطوير قطاع الصحة منذ الاستقلال، إلا أن التحديات التي يُواجهها القطاع ما تزال قائمة، فتحقيق نظام صحي مستدام ومتكامل يتطلب مزيدًا من الجهود والاستثمارات، بالإضافة إلى تبني استراتيجيات جديدة تركز على الابتكار والكفاءة وتحقيق العدالة الصحية لجميع المواطنين، وهو أمر غير مستحيل لأن الجزائر لديها الإمكانيات والقدرات اللازمة لتحقيق هذا الهدف، كما أن الإرادة السياسية موجودة وتعمل على هدف واحد هو تنمية القطاع وتحقيق العدالة الصحية عبر كامل أرجاء الوطن.
لكن ومع كل التقدم الملحوظ في القطاع الصحي بعد نيل الجزائر استقلالها سنة 1962، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة تتطلب حلولًا مستدامة لضمان تقديم خدمات صحية شاملة ومتكاملة لجميع المواطنين بلا استثناء، ويُعد الضغط على الهياكل الصحية أحد أبرز هذه التحديات، حيث تظل البنية التحتية غير كافية لمواكبة النمو الديموغرافي المتزايد، مما يؤدي إلى ازدحام المستشفيات والمراكز الصحية، خاصة في المدن الكبرى، وهو ما يتطلب بناء مزيد من المؤسسات الصحية لتخفيف العبء عن المنشآت الحالية وتقديم خدمات صحية أفضل، وعمليا هو ما تسعى إليه السلطات عبر عدد من مشاريع بناء مستشفيات ومراكز علاجية قيد الإنشاء عبر مختلف المناطق.
بالإضافة إلى تحدي بناء المراكز العلاجية نجد تحديا آخر متمثلا في الموارد البشرية في القطاع الصحي التي تُعتبر غير كافية، حيث يوجد نقص في الأطباء والممرضين في بعض التخصصات الحساسة، هذا النقص يتطلب تحسين برامج التكوين وزيادة عدد التخصصات المتاحة في الجامعات والمعاهد الطبية، بالإضافة إلى تشجيع الكفاءات الوطنية على العمل في القطاع العام. كما ينبغي مواكبة التقدم السريع في الطب الحديث، وذلك من خلال توفير تقنيات وأجهزة طبية متطورة تتيح للأطباء تقديم خدمات طبية تتماشى مع المعايير العالمية الحديثة.
من جهة أخرى، يجب على الجزائر دعم الاستثمار في تطوير نظام مراقبة صحية يعتمد على التكنولوجيا الحديثة لرصد الأوبئة والأمراض المعدية والأمراض المحتملة بشكل مبكر، حيث تفتقر الجزائر إلى نظام مراقبة وتحذير مسبق للأوبئة والأمراض، كما يُمكن أن يكون فعالًا في التعامل مع التهديدات الصحية الطارئة.
ويرى العارفون بشؤون القطاع أن هذا النظام يُعد ضرورة ملحة، خاصة في ظل ما عاشه العالم خلال جائحة كوفيد-19، حيث أثبتت التجارب أن الدول المتقدمة تعتمد على أنظمة متطورة لرصد وتحليل البيانات الصحية واتخاذ التدابير الوقائية المناسبة في الوقت المناسب.
ويؤكد المختصون في القطاع الطبي أن الجزائر تعمل على تطوير القطاع الصحي في السنوات المقبلة من خلال تعزيز البنية التحتية الصحية من خلال بناء مستشفيات ومراكز طبية جديدة تلبي احتياجات السكان المتزايدة، كما تسعى لأن تكون هذه المرافق مجهزة بأحدث التقنيات الطبية، وكذا العمل على توفير بيئة عمل مناسبة للأطباء والعاملين في القطاع الصحي.
