القصبة.. عروس البهجة تصارع الزمن

القصبة.. عروس البهجة تصارع الزمن

حوّل العبث البشري وعوامل طبيعية المدينة القديمة في قصبة الجزائر العاصمة إلى منطقة مهدّدة بالزوال، اجتماعياً وعمرانياً، حيث أكثر من 600 من عماراتها ذات الطراز العربي الأندلسي آيلة للسقوط وتصمد أمام أهوال الطبيعة والزمن.

وما تزال مخططات ترميم قصبة العاصمة وحمايتها تتوالى الواحدة تلو الأخرى، إلا أنّ المدينة العتيقة ما تزال هي الأخرى تواصل طريقها نحو الاندثار والزوال في صمت وعلى مرأى ومسمع الجميع.

والأشغال المعجّلة التي انطلقت لتدعيم البنايات الهشّة بالقصبة تتضاءل يوماً بعد يوم، ما يهدّد صلابة النسيج العمراني. ويمكن أن ترى معالم التقهقر ليس في أزقّتها المملوءة بواجهات المنازل المتهاوية فحسب، بل أيضاً في البنية الأساسية الفيزيائية والاجتماعية التي بدورها تتداعى داخل المدينة.

وجاء مخطّط الحكومة الدائم للحفاظ على قصبة العاصمة في مارس 2012 في شكل نص قانوني لتسيير عمليات الترميم المستمرّة منذ سنوات على أيدي مهندسين ومعماريين متخصّصين. وقد رصدت الحكومة له نحو مليار دولار أميركي لحماية المواقع التاريخية مع اقتراح حلّ نهائيّ يجمع بين حماية هذا الحيّ العتيق ذي القيمة التاريخية والثقافية من جهة، ومن جهة أخرى الإبقاء على جزء من سكّانه المتعاقبين منذ أجيال، وبين الحماية والإبقاء يجد سكّان الحيّ أنفسهم في كرّ وفرّ.

وما أثّر سلباً على أوضاع البيوت المزرية، تلك الترميمات العشوائية التي يباشرها يومياً سكّان الحيّ لحماية مساكنهم من انهيارات محتملة، من دون القدرة على “الترميم الجماليّ”، ما شوّه الجانب العمراني المعماري للعديد من البيوت وطمس روحها التراثي.

تظهر على العديد من قصور القصبة السفلى، التي “رُمِّمَت” نقائص تقنية “وغياب المهارة”، بحسب تصريح سابق للباحث الراحل بلقاسم باباسي، رئيس جمعية القصبة سابقا وهو يتأسّف على “بقاء الأحوال على حالها وعدم الالتزام بالمقاييس الفنية في ترميم الدويرات”، ويشتكي من “توكيل مهمة الترميم إلى حرفيين غير مؤهلين لهذه العملية، إذ غالباً ما يغادرون ورشات العمل فور الحصول على مستحقّاتهم، وإن لم تنتهِ المهمة بشكل كامل”.

ويتابع باباسي “الذين يواصلون العمل، معظمهم لا يملك الصنعة، وبالتالي أصيب بعضهم أو توفي نتيجة جهله بأسس العمل” الترميمي. وتساءل باباسي بمرارة عن العدد الهائل من المؤسسات ومكاتب الدراسات.

في هذا الوقت يتعمّق في صمت جرح المدينة النازف. هي التي تمتدّ على مساحة 105 هكتارات في أحد أجمل المواقع البحرية الواقعة على البحر المتوسّط… المدينة العريقة التي لم يبدأ تاريخها بالاحتلال العثماني في الجزائر العام 1516 بل يعود إلى القبائل البربرية التي استوطنت الجزائر منذ ثلاثين قرناً. كذلك شهدت المدينة إنشاء مركز تجاري قرطاجيّ منذ القرن الرابع قبل الميلاد.

إلا أنّ دور المدينة لم يبدأ في البروز إلا بعد ظهور الفينيقيين الذين أقاموا تبادلات تجارية مع سكّان المدينة وشيّدوا عليها منشآت بحريّة عدّة في القرن السادس قبل الميلاد وأعاد بناءها الأمير “بولوغين بن زيري بن مناد الصنهاجي” منذ أكثر من 2000 سنة على الأطلال الرومانية.

ثم احتلّها الرّومان. واليوم هي جزء من مدينة الجزائر التي بناها العثمانيون في القرن 16 على يد الأخوين خير الدين وبابا عروج بربروس. ولأنّ السلطان كان له مقرّ فيها، بُنيت على أنّها قاعدة عسكرية مهمّتها الدّفاع عن الجزائر.

طرازها الهندسي مأخوذ من الفنّ المعماري التركي العثماني. وداخلها عبارة عن متاهة من أزقة متداخلة. فإذا دخلها شخص أجنبي لا يجد سبيلا إلى الخروج منها. فهي تنتهي بأبواب المنازل. ويُعتبر حيّ القصبة الفسيفسائية، الأخّاذ بجماله وموقعه ومعالمه وهندسته، شاهداً على ذاكرة الأمة وتاريخ الشعب الجزائري، فهو بمثابة خزانة غنيّة لتراث البلد التاريخي.

أُدرِجَت المدينة في لائحة التراث العالمي للبشرية منذ العام 1992 من طرف اليونيسكو تقديراً لـ”قيمتها الاستثنائية” و”شهادة على تناسق العديد من التوجّهات في فنون العمارة ضمن نظام معقّد وفريد عرف كيف يتأقلم مع أرضية صعبة” تقع في الهضبة المطلّة على البحر.

من يعرف الحيّ هذا يعرف أنّه موطن ذكريات بقدر ما هو مكان تاريخيّ. فهو يضمّ بقايا قلعة ومساجد قديمة وقصوراً عثمانية، بالإضافة إلى بنية حضرية تقليدية تتميّز بروح العيش مع الجماعة ومنها “قصر مصطفى باشا” و”قصر دار الصوف” و”قصر دار القادس” وقصر “سيدي عبد الرحمن” و”دار عزيزة بنت السلطان” و”قصر ريّاس البحر” و”قصر خداوج لعميا”، كما بُني فيه مساجد كثيرة، منها “الجامع الكبير” و”الجامع الجديد” و”جامع كتشاوة” و”جامع بتشين” و”جامع السفير” و”جامع السلطان”.

غير أن الكوارث الطبيعية والعوامل البشرية جعلت منها مدينة للموت المحتّم على قاطنيها، بعد تصدّعها وتآكلها وتساقط أجزاء منها، بسبب الإهمال الذي طاولها والذي لم تتسنَّ السيطرة عليه بعدما خرج الوضع عن سيطرة مسؤولي ولاية الجزائر، ما جعل قاطنيها الأصليين في تساؤل دائم حول وضعهم.

القسم المحلي