اهتراء السكنات.. التجارة الفوضوية وتراكم النفايات أهم انشغالات السكان
يشكل الواقع اليومي موضع حديث لا ينضب لسكان القصبة وذلك سواء في المقاهي الشعبية أو في الشوارع والأزقة التجارية للحي العتيق، حيث لا ينتهي النقاش حول الظروف المعيشية التي تزداد صعوبة يوما بعد
يوم في انتظار ترميم ترقبوه لعقود.
لم يعد هذا المركز التاريخي بقلب العاصمة المصنف منذ أكثر من 26 سنة كمعلم إنساني من قبل اليونيسكو ويحتفي بيومه الوطني سنويا في الـ 23 فيفري قادرا على الانتظار ترقبا لحدوث معجزة” تمكن من ترميم الحي وإنعاشه اقتصاديا وسياحيا في نفس الوقت، إنه حلم بدأ يتبدد في عيون سكانه مع انهيار كل منزل وسط تلك السكنات الهشة.
وبعيدا عن الترميم التقليدي للبنايات الذي تحقق من خلال بعض التجارب على مستوى المساجد والقصور، أكد الكثير من سكان الحي على “الوضع المعيشي الصعب في حي مكتظ بالسكان (أكثر من 52 ألف نسمة) في محيط لا يتعدى مساحته 105 هكتار محروم من “وسائل الرفاهية الحديثة”.
ويتأسف “فضيل” الذي يقطن بيتا كبيرا بالقصبة السفلى ملك لعائلته منذ حوالي قرن عن “الإهمال” الذي تعانيه أحياء القصبة “المحاصرة” بالتجارة الفوضوية والنفايات، ويقول المتحدث “بيتنا كما العديد من البيوت المجاورة في حاجة فقط إلى تهيئة بسيطة وروتوشات جمالية”، في حين أن المشاكل العويصة تواجهنا بمجرد تخطي عتبة البيت.
ويضيف قائلا تصبح أمور بسيطة كالخروج رفقة الأسرة وركن السيارة وبلوغ محطات النقل وكذا توصيل الأطفال للمدرسة وممارسة الرياضة وأنشطة أخرى بالنسبة لنا “معركة يومية”، خاصة وأننا نسكن بين نهجي عمار علي وبوزرينة اللذين حولا إلى سوق فوضوي منذ سنوات.
ويقول “حليم” المولود في 1949 الذي يقطن ببيت يتقاسمه مع أخواته “علينا الخروج من القصبة لممارسة الرياضة والذهاب إلى المتوسطة والثانوية وإيجاد مساحة خضراء وأيضا مرافق صحية وتكوينية وثقافية”.
ويتأسف هذا الأخير للوضع الحالي للقصبة التي أصبحت عبارة عن ورشة لا تنتهي بسبب تأخر الانطلاق الفعلي للترميم المنتظر منذ أكثر من 30 سنة، كما تستوقف زائر الحي تلك الألواح الخشبية المنتشرة هنا وهناك بسبب الأشغال المستعجلة.
واسترسل في حديثه قائلا: “إن هذا الجو يدفع بنا لمغادرة بيوتنا”.
وشكلت مسألة تحسين نوعية حياة السكان إحدى أهم توصيات خبراء اليونسكو المجتمعين مؤخرا بالجزائر، الذين شددوا على أهمية “استرجاع وإنشاء المزيد من الفضاءات والحدائق العمومية، وأيضا تركيز جهود السلطات العمومية على تحسين إمكانية الحصول على التجهيزات الاجتماعية..
نشاطات ثقافية واقتصادية دائمة
ويشدد الخبراء على أن إدماج هذا المركز التاريخي في العاصمة مع تفضيل العمل الثقافي والاجتماعي وبعث ديناميكية سياحية فعلية هي من بين التحديات الجديدة التي يجب رفعها في مسألة إعادة الاعتبار للقصبة.
وأبرز “ياسين” صاحب مقهى صغير قريب من مسجد سيدي رمضان يقصده الزوار والكثير من السكان القدماء للحي “انبهار” هؤلاء الزوار من جزائريين وأجانب “بهذا المعلم التراثي”، لكن هذا الانبهار لا يخفي تأسفهم لحالة الإهمال الذي آل إليه هذا الصرح التاريخي والحضاري. وتأسف ياسين الذي يتواصل باستمرار مع الزوار
والمرشدين السياحيين للقصبة لغياب التجارة والتجهيزات التي يجب أن “ترافق خطاب بعث السياحة في الحي الذي يردده الجميع”. بالنسبة له “لم يبق الكثير” لجلب الزوار، مرجعا السبب إلى سلوك “السكان” الوافدين الذين احتلوا السكنات وينتظرون فقط إعادة إسكانهم، وإلى جانب “احتلالهم” للأنقاض، قاموا بغلق المنافذ المؤدية للطرقات بـ “بيوت قصديرية وأعمال ترميم فوضوي”.
قد ساهمت هذه الخصوصية بالنسبة للسكان إضافة إلى قلة الفضاءات والحدائق العمومية والهياكل الاجتماعية في تدهور محيط الحياة في هذا المركز الذي تسبب بدوره في تدهور النسيج العمراني الذي أصبح من الصعب التحكم فيه برأي الخبراء.
لكن رغم هذا الوضع وانهيار قرابة 370 دويرة تاركة فضاءات شاغرة في الحي، إلا أن نشاط المرشدين السياحيين بدأ ينتعش رغم غياب المكاتب السياحية ولافتات لتوجيه الزوار وغياب المطاعم والمقاهي ومحلات بيع المقتنيات التذكارية والمراحيض العمومية.
وكان خبراء اليونيسكو الذين أشاروا إلى انعدام النشاط السياحي في الحي، قد أوصوا ببعث حياة ثقافية اقتصادية تتماشى مع الترميم العاجل للبنايات للإبقاء على السكان الذين هم الضامن الوحيد لحفظ روح هذا الصرح التاريخي. كما لفت هؤلاء الخبراء الذين عملوا في ترميم عدة مراكز تاريخية خلال زيارتهم للقصبة إلى وجود نقائص في مخطط حماية القصبة، إضافة إلى التعقيدات الإدارية التي يجب تجاوزها بسرعة.
واستفادت قصبة الجزائر العاصمة من مخطط دائم للحفظ والتثمين صادقت عليه الحكومة في فيفري 2012 وهذا بهدف إعادة تهيئة المركز التاريخي للمدينة المصنف ضمن التراث الإنساني العالمي من طرف اليونسكو في 1992.
ويهدف مخطط الحفظ -الذي خصص له غلاف مالي قدره 90 مليار دينار- لإعادة الوجه الأصلي لقصبة الجزائر عبر التركيز على المواقع التاريخية، وفي نفس الوقت تقديم حلول نهائية تجمع بين حماية مدينة ذات قيمة تاريخية وثقافية عالية والاحتفاظ بجزء من السكان القاطنين.
ويتوقع -وفقا للمخطط- إعادة بناء حوالي 400 بناية قديمة منهارة “وفقا للمعايير”، وهذا من أجل تقوية مجمل النسيج العمراني قبل الانتقال إلى ترميم البيوت والمساجد والبنايات الكولونيالية.
ومن أجل تسهيل عمليات الترميم، اقترحت الدولة شراء ممتلكات الملاك “الحقيقيين” أو منح أولئك الذين يريدون استعادة منازلهم بعد الأشغال سكنات مؤقتة خلال كل مدة هذه الأشغال.
غير أن عمليات إعادة الإسكان والإسكان المؤقت وكذا ترميم النسيج العمراني المأهول لا تزال متوقفة.
وفي إطار هذا المخطط، فإن “أي تعديل غير مرخص به من طرف وزارة الثقافة والمكاتب التابعة لها غير ممسوح به”، في حين أن أعمال البناء الجديدة أو غير الشرعية “معرضة للتهديم”.
وتضم قصبة الجزائر حوالي 550 بناية قديمة – بما فيها الكولونيالية- في حالة “تدهور متقدم” منها حوالي 200 في حالة “تدهور كبير جدا” وتشكل خطرا على ساكنيها.
ومن جهة أخرى، فإن قرابة الألف منزل “متدهورة بصفة متوسطة أو جزئية” و120 بناية قديمة منهارة و120 أخرى مغلقة أو محاطة فقط بالأسوار ولكنها في أغلبها مسكونة بطريقة غير شرعية.
وفي إطار هذا المركز التاريخي، فإن النسيج العمراني التقليدي يضم أقل من 600 من الدويرات (منازل صغيرة).
ومن أجل مواجهة الاستغلال غير الشرعي للسكنات وتأمين أمن المرممين، فإنه من المتوقع تأسيس حوالي عشر نقاط شرطة ضمن الحدود الداخلية للقصبة والتي تعوضها حاليا فرق حراسة في انتظار تطبيق هذا البند.