إنَّ القرآن الكريم هو الحُجة في الدين، وهو خلاصة الهدايات الإلهية للبشَر، وآخر ما نزل من الكتب السماوية إلى الأرض، وهو المُنزَّه – بإذن ربه – عن التحريف أو الضياع، وجاء شاملاً ومهيمنًا على ما يَحتاجه الإنسان من عقائد وأحكام فقهية، وقصص للسابقين، وآداب وقيم ونظُم، وأحوال للنفس البشرية، وأصول الاجتماع الإنساني، بالإضافة إلى شؤون الآخرة، وأحوال الملأ الأعلى، ووصف الجنة والنار، وأحداث القيامة وأهوالها. ونحن معشرَ المسلمين نتعبَّد إلى الله بتلاوته وبتدبُّره، وبالاحتكام إليه في أمور حياتنا، فضلاً عن أمور ديننا، ولعلَّنا إن قمنا بالتلاوة والتدبُّر والاحتكام نفرُّ مِن مظلَّة تلك الشكاية القاسية على لسان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه: ” وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ” الفرقان: 30. إنَّ للقرآن آثاره المتجليّة على مَن أخذه بحقه ووعاه بقلبه تدبُّرًا، إنَّ أغلب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَنتقلوا من الكفر إلى الإيمان إلا بفضل آياتٍ مِن القرآن سمعوها وتأثَّروا بها وتفاعلوا معها تفاعلاً أفضى بهم إلى ترك ديانتهم الوثنية التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم؛ فهذا عمر بن الخطاب، كان غليظًا شديدًا على المؤمنين، حتى إن بعضهم قال: لو أسلم حمار الخطاب ما أسلم عمر، حتى وصل طغيانه إلى أنه قد عزَم أمره على ارتكاب أكبر جريمة يُمكن أن تراها الأرض وتشهدها البشرية، وهي قتْل النبي صلى الله عليه وسلم خير البشَر.
وكان لا يأبه بعواقب هذه الجريمة التي من الممكن أن تضيع فيها حياته ثأرًا من بني هاشم، وعمر بصفاته هذه حين ذهب إلى بيت أخته ليَنتقم منها بسبب علمه بإسلامها ثم تمهَّل قليلاً فسمع بضع آيات من صدر سورة طه، فإذا به ينقلب حاله تمامًا، وتتغيَّر مشاعره، ويتحول بقوته وطاقته من جانب الكفر المُضطهِد للمُسلمين إلى مُسلم موحِّد، بل أصبح الفاروق، وتحقَّقت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهمَّ أعزَّ الإسلام بأحد العمرين”، وكان إسلامه إضافة قوية لشوكة المسلمين في مكة، عمر هو هو عمر لم يتغيَّر شيء من حوله، إلا أنه سمع بضع آيات من القرآن فانقلب حاله، فما بالنا نحن ونحن نسمع ونقرأ القرآن صباحَ مساءَ ولكن نظلُّ عاكِفين على معاصينا ومفرّطين في جنب ربنا؟!. إنَّ عدم تأثُّرنا بالقرآن ظاهرة يَجب أن نتوقَّف عندها كثيرًا، ونتفحَّص أسبابها؛ لأنَّ التفاعل مع القرآن ليس رفاهية، وإنما حتم لازم على كل مؤمن، فالأصل أن المؤمن يقرأ أو يسمع آية من القرآن، وهذه الآية تُفضِي عليه بمَشاعر تجعله ينتهج سلوكًا معينًا يُقرِّبه مِن ربه أكثر، وتزيد إيمانه.
وأسباب كثيرة تكمن وراء عدم تأثُّرنا بالقرآن؛ منها: عدم فهمِنا لوظيفة القُرآن، وعدم إدراكنا أنه روح تُحيي قلوبنا بالإيمان؛ ” وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ” الشورى: 52، أو لعلَّنا لا ندري ما هو التعامل الأمثل مع القرآن الذي هو التدبر والتطبيق؛ ” كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ” ص: 29، أو بسبب طول إلفِنا له وتعامُلِنا معه على أنه ترانيم نسمعها في كل مكان، وأصبح وجوده في حياتنا لا يَستدعي التوقُّف وإعمال الفكْر في فهمِه والتأثُّر به، في حين أننا نهتم جدًّا بأيِّ كتاب أو رواية نقرؤها ونتفهَّم معانيها، كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى تعاملِنا السطحيِّ مع القرآن أو اعتباره في أحسن الأحوال مصدرًا لجَمْع الحسنات، فكل حرف بعشر حسنات، فانشغلنا بالمهمِّ عن الأهم.